نديم

ابراهيم الحريري

2008 / 3 / 25

_ شو ما سألت عن صديقك نديم؟" قال لي واحد من الحرس، لم اتبين وجهه، وانا في طريقي اليومي لتوزيع الجريدة على نقاط الحراسة وبعض البيوت القليلة المتناثرة، التي استطاعت التكيف مع جدران الاسمنت العالية، ونقاط الحراسة، وعربات "الهمر" و"الهمفي". * * * صحيح! كيف لَمْ اسأل عن "صديقي نديم؟ تذكرته، بالاحرى، اكثر من مرة، خصوصاً عندما كنت اقترب من نقطة الحراسة التي كان يلاقيني عندها. كان ذلك شتاء 2007. وكأننا على موعد، ينتظر حتى اسلم نقطة الحراسة، حصتهم من الجريدة، واتجه صوب النقاط الأخرى على امتداد شارع ابونؤاس، يسبقني، كمن مكلف بمهمة، خطوة أو اثنتين، يتقافز منقلا قوائم بيضاء علاها الطين، بين الحفر وبرك المطر، تنتصب اذناه البنيتان، يخالطهما السواد، لدى محاولة أي كلب او كلبة اعتراض طريقنا، يظل يتواثب امامي، حتى يوصلني الى النقطة الاخيرة، على الشارع يتلبث متردداً وانا اقفز السور لملاقاة نقاط أخرى عند حافة النهر، ينظر الي كأنه يعتذر، يلوي سالكاً طريق العودة. * * * صحيح! اين نديم؟ * * * كان صديق الجميع، شرطة المرور المتجمعين عند مدخل بناية مديريتهم يحتسون شاي الصباح، وافراد نقاط الحراسة، الذين كانوا ما يفتأون ينادونه مداعبين عندما تقترب كلبة: "نديم... جتي صاحبتك!" فينبثق، لا تدري من أين، كأنه من باطن الارض. اما عندما كان "يعصي" فكانت تنعقد حوله حلقة من رجال شرطة المرور والحرس، يضحكون متندرين: "ابونفس الدنيه!" وهو يعوي متوسلاً ان يفرجّوا كربته، حتى يندلق عليه وعلى صاحبته الماء الحار، فيهرب مطأطئاً طاوياً ذيله بين ساقيه يلاحقه الضحك والصفير. كان، رغم كهولته، شبقاً، ملأ نقاط الحراسة بذريته، ذكوراً واناثاً، فكانت النقاط، وكأنها تعُدُّ ذلك جزءاً من واجبها، تتناوب العناية بذرية نديم المباركة توفر لها الغذاء، حتى الحليب احياناً! اما دبدوب، السمين المتين المرح، فكان من بين ذرية "نديم" الاوفر حظاً من العناية والتدليل ساومت، عبثاً، عليه: - تبيعوه" سألت افراد النقطة؟ - صدگ؟ چذب عمي؟ هذا دبدوب الورد" رد الحارس معتذراً. * * * صحيح أين نديم؟ * * * كان نديم قد ودعني، على طريقته، وانا اعبر السور ميمماً صوب نقاط الحراسة عند الشاطىء عندما داهمتني ثلة من الكلاب، تقودهم كلبة عقور اعتادت ان تعترض طريقي كل صباح يلحقها كلب او اثنان. ذهبت محاولاتي استمالتها ادراج الرياح، فلم اكن اجد بداً من حصبها وربعها بحصاة او اثنتين. لم تنفع، هذه المرة الحصى. احاطت بي الثلة تقودهم العقور. تلفتّ ابحث عن حجارة او عصا عندما وثب نديم وسط العصابة. لم ادر كيف ومن اين اتى وكيف عرف. اشتبك معها، كان وحيداً، تناوشه اكثر من مخلب وناب، حتى استطعت ان ابعدهم بما تلقفته من حجارة، فانسحبوا. اقترب مني نديم. كان مدمى. احتك بساقي كأنه يعبر عن الشكر. قعد يلعق جراحه فانتظرته. عاينني ممتناً، ثم تقدمني متوثباً، رغم جراحه، فتياً رغم كهولته، مهيباً وقوراً كأنه كبير قوم، تتوفز كفشته التي يخالط صهبتها السواد، يتوقف، احياناً، تنتصب اذناه، يعاين يمنة ويسرة يعاود السير، متحاملا، رغم جراحه كأنه أسد... حتى فارقني عند المنعطف. ومن يومها ونديم لا يفارقني حتى يوصلني الى المنعطف الموصل الى الجريدة. * * * اختفى نديم... لم يعد يلاقيني. قيل ان عربة "همفي" دهست قرة عينه "دبدوب" هام على وجهه. كنت اسمع عواءه الاقرب الى النواح، على الشواطىء القريبة والبعيدة يشق هدأة الليل حتى سافرت... * * * صحيح! أين نديم؟" سألت الحارس اقترب مني. قال فيما يشبه الهمس: توقفت عربة "همفي". ترجل افرادها لعلهم كانوا في نوبة استراحة. لم ندر كيف انشقت الارض عن نديم. اندفع الى العربة مثل الطلقة، يعوي عواء تجمّع فيه التوجع والتفجع والنواح والبكاء. سكت الحارس. وبعدين؟" سألت حابساً انفاسي ردّ وهو يحبس حشرجة: - "قتلوه!" -20 آذار/2008




https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن