جورج حبش: مأساة الامة العربية والعالم المعاصر في مأساة رجل

جورج حداد

2008 / 3 / 11

في اواخر شهر كانون الثاني 2008، غادرنا الى الابد القائد الوطني الفلسطيني والثوري الاممي جورج حبش.
كان جورج حبش واحدا من قلة من الرجال المناضلين والمفكرين الاحرار الذين وضعوا بصماتهم على القرن العشرين وألقوا بظلهم على القرن الواحد والعشرين.
ولد جورج حبش في اب 1925، ونشأ نشأته الاولى وسط عائلة مسيحية ارثوذكسية فلسطينية. اي انه واحد من ارومة اولئك المسيحيين العرب الاوائل، الضاربة جذورهم في عمق التاريخ، الذين يباهون العالم المسيحي خاصة والعالم بأسره عامة، بأنهم كانوا اول من وحد صفوف الامة العربية في نصرة قضية السيد المسيح، والوقوف معه ضد استبداد وطغيان الامبراطورية الرومانية وخيانة ومركنتيلية الطغمة المالية العليا لليهود وطغامتهم، التي حين خيّرها بيلاطس البنطي بين ان يطلق من السجن الصديق عيسى بن مريم او اللص باراباس صاحوا بدون تردد "باراباس!"، وحينما غسل بيلاطس يديه قائلا "انا بريء من دم هذا الصديق"، صاحوا "ليكن دمه علينا وعلى ذريتنا".
وحينما شرعت العصابات الصهيونية في تمزيق فلسطين تمهيدا لابتلاعها، لم يكن الفتى المسيحي ـ العربي اليافع جورج حبش يصدق ان العالم المسيحي المتحضر سيبيع وطن المسيح ببرميل نفط، كما باع يوضاس السيد المسيح بثلاثين من الفضة؛ كما لم يكن يصدق ان الامة العربية الكبيرة يمكن ان تهزمها عصابات المافيا الصهيونية.
وحينما كان الشاب جورج حبش يدرس الطب في الجامعة الاميركية ببيروت، لاجل خدمة بلاده ومجتمعه النامي الذي كان يطمح الى تحريره من الانتداب البريطاني بعد القضاء على النازية والفاشية، كانت صفقة روزفلت/تشرشل ـ ستالين لتقاسم النفوذ الدولي في العالم، وصفقات منح امتيازات التنقيب عن النفط في الاراضي العربية، تأخذ مجراها في الاعتراف باقامة دولة اسرائيل ككلب حراسة للمصالح الامبريالية النفطية وغير النفطية في المنطقة، وكـ"وطن قومي لليهود" على انقاض فلسطين العربية واشلاء الشعب الفلسطيني الذي تحول بأغلبيته الساحقة الى مهجرين مطرودين من بيوتهم، ومنهم عائلة جورج حبش.
وادرك جورج حبش باكرا حقيقتين:
الاولى ـ انه في ظل هيمنة الامبريالية والصهيونية على مؤسسات وقنوات ما يسمى "الشرعية الدولية"، فإن النضال السياسي السلمي وحده لن يؤدي الى الاعتراف بالحقوق التاريخية للشعب العربي الفلسطيني واعادة الحق الى نصابه؛
والثانية ـ ان المؤامرة هي اكبر من فلسطين، وانها تطال الامة العربية بمجموعها، التي تطمع الامبريالية والصهيونية العالمية بالخيرات غير المحدودة لارضها، وهما تخشيان ان توحد الامة العربية صفوفها للتحرر من ربقة الاستعمار الجديد والامبريالية.
بناء على هذا الوعي المبكر عمل جورج حبش في البدء على تأسيس "كتائب الفداء العربي"، التي كانت تعتمد خط الكفاح المسلح الفردي؛ ولكنه سرعان ما ادرك الاهمية الحاسمة للعمل الجماهيري الواسع، وللبعد القومي للقضية الفلسطينية، فأتجه مع رفاقه الاوائل وديع حداد وغيره لتشكيل "حركة القوميين العرب"، التي كان لها دور كبير في تطوير النضال الوطني على مختلف الساحات العربية وخاصة الساحة الفلسطينية واللبنانية واليمنية (وبالاخص اليمن الجنوبية السابقة)، وفي عمان والخليج، وحتى في عربستان ايران. وبعد هزيمة حزيران 1967، شكلت حركة القوميين العرب "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" التي شغل جورج حبش منصب امينها العام حتى سنة 2000، وكان ولا يزال لها دور نوعي كبير في تطوير الكفاح المسلح والنضال الوطني الفلسطيني عامة. ومن خلال رؤيته القومية، عمل جورج حبش على اقامة علاقات ثورية مع الفصائل الاخرى في حركة التحرر العربية، وخصوصا الحركة الناصرية التي كان يقودها جمال عبدالناصر.
وخلال مسيرته النضالية والفكرية، قبل وبعد تكوين "الجبهة الشعبية"، اكتشف جورج حبش ان النضال من اجل التحرر الوطني الفلسطيني والعربي يرتبط تمام الارتباط بالنضال لاجل العدالة الاجتماعية والاشتراكية، ضد الامبريالية والصهيونية والرأسمالية، فطرح موضوعة التحول نحو تبني الفكر الاشتراكي العلمي ، الماركسي ـ اللينيني، وبناء التنظيم الثوري البروليتاري، القومي العربي، الاشتراكي، كجزء لا يتجزأ من الحركة الاشتراكية والشيوعية العالمية. وبناء على هذه الرؤية اقامت "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" علاقات رفاقية مميزة مع الاتحاد السوفياتي السابق والبلدان الاشتراكية السابقة، ومنها خصوصا بلغاريا الشعبية والحزب الشيوعي البلغاري (سابقا).
والى جانب الصفات الشخصية الرفيعة التي تميز بها جورج حبش، والتي يعترف له بها خصومه قبل رفاقه واصدقائه، يمكن القول ان فكره وكفاحه ارتكزا الى ثلاثة اسس مركزية:
1 ـ الكفاح الثوري الوطني الفلسطيني، القائم على الايمان بعدالة القضية الفلسطينية وتحرير كامل التراب الفلسطيني وعودة جميع المهجرين الفلسطينيين الى ديارهم، ووحدة النضال الفلسطيني، واقامة الدولة الدمقراطية الفلسطينية العربية التي يمكن ان يعيش فيها ايضا المواطنون اليهود الشرفاء غير العنصريين الصهاينة.
2 ـ الارتباط العضوي للنضال الوطني الفلسطيني بالنضال لاجل تحرير وتوحيد الامة العربية، ضد الاستعمار والامبريالية والصهيونية والرجعية.
3 ـ الارتباط العضوي للنضال التحرري الفلسطيني والعربي، بالنضال البروليتاري الاممي لاجل تحقيق العدالة الاجتماعية والاشتراكية، والقضاء على الاستغلال الطبقي والرأسمالية ـ الأساس المجتمعي لكل الشرور الاجتماعية والعنصرية والفاشية والصهيونية والطائفية والاستعمارية والامبريالية.
ولكن، الى جانب الصعوبات الموضوعية الهائلة التي كانت "الجبهة الشعبية" بقيادة جورج حبش، والحركة الوطنية الفلسطينية والعربية عامة، تواجهها، ضد الامبريالية والصهيونية والرجعية العربية؛ فقد بدأ الخط التطويري الثوري لجورج حبش يواجه ايضا صعوبات اكثر خطورة، من داخل الدوائر النضالية التي كان يتحرك فيها، وبدا وكأن هذا الخط يسبح ضد التيار. ونلخص هذه الصعوبات "الداخلية" بما يلي:
اولا ـ في الاطار الوطني الفلسطيني: في هذا الاطار اصطدم تيار جورج حبش ليس فقط بالعدو الصهيوني والامبرالية الاميركية الداعمة بكل قوتها له، وبالخونة والعملاء والجواسيس المرتبطين بالمخابرات والاجهزة الاسرائيلية والاميركية والانظمة العربية الرجعية الحليفة للامبريالية، بل واخذ منذ البداية يصطدم بالقوى الوطنية الفلسطينية ذاتها، البرجوازية والبرجوازية الصغيرة، التي وضعت سقفا للنضال الفلسطيني هو سقف الاعتراف المسبق بحتمية وجود اسرائيل، بقوة الحق المزعوم او بحق القوة، و"التفاهم" مع اسرائيل على "تحرير" جزء من الارض الفلسطينية لاقامة دولة فلسطينية مسخ تتعايش سلميا مع اسرائيل. وقد وجد هذا الخط "التفاهمي" انعكاسه او دعما له من قبل بعض الفصائل التي تدعي اليسارية والتقدمية وحتى "الشيوعية" بالتناغم مع ما يسمى "الحزب الشيوعي الاسرائيلي" الذي قام منذ البداية على الاعتراف باسرائيل قبل ان تولد، وبعد ان ولدت وقامت على اشلاء الفلسطينيين والشعب الفلسطيني. وهكذا وجدت "الجبهة الشعبية" بقيادة جورج حبش نفسها محاصرة من "اليمين" الوطني الفلسطيني، بزعامة عرفات، اللاهث الى اقامة "سلام الشجعان" مع اسرائيل، الى "اليسار" الفلسطيني اللاهث ايضا خلف التفاهم مع اسرائيل و"تهذيب" الصهيونية، للوقوف بوجه تمدد وانتشار التيار الديني، باسم "الدمقراطية" و"الليبيرالية" و"حقوق الانسان" و"العلمانية" و"العولمة". وكان يزيد في خطر الحصار الفلسطيني الذي واجهه تيار جورج حبش دفق المساعدات المالية التي كانت تتلقاها من الانظمة العربية مختلف التنظيمات والتيارات والاتجاهات المنحرفة، الساعية الى المفاوضات والتفاهم مع العدو.
ثانيا ـ في الاطار القومي العربي: مثلت فترة الخمسينات من القرن الماضي ذروة تصاعد النضال التحرري في مختلف الاقطار العربية ضد الاستعمار التقليدي والقواعد العسكرية والاحلاف الاجنبية. وفي هذه الفترة بالذات حصلت معظم البلدان العربية على استقلالها السياسي، كما حصلت الثورات والانتفاضات والانقلابات الوطنية في مصر وسوريا والعراق والاردن ولبنان والجزائر واليمن وغيرها. وهذا ما اعطى للتوجه القومي لتيار جورج حبش مصداقية وزخما كبيرين. ولكن وصول مختلف القوى الوطنية "القومية" و"الثورية" و"التقدمية" الى السلطة، في العديد من البلدان العربية، كمصر وسوريا والعراق والسودان والجزائر واليمن وليبيا، وبدلا من ان يشكل خطوة نوعية الى الامام في تطور حركة التحرر الوطني العربية، شكـّل ـ بالضد ـ اكبر نكسة للحركة الوطنية العربية وللقضية الفلسطينية والقضية العربية ولقضية تحرر الشعوب عامة. اذ ان الانظمة "الوطنية" و"التقدمية" و"الثورية" العربية، وبالرغم من كل الدعم الشعبي العربي والدولي الذي حصلت عليه، غرقت الى ما فوق الاذنين في مستنقع السلطة القطرية، وفشلت فشلا ذريعا في مواجهة اسرائيل (في هزيمة حزيران 1967، ظهر تماما ان الجاسوسية الاسرائيلية والاميركية قد اخترقت حتى النخاع الشوكي النظام المصري، بحيث ان الطيران الاسرائيلي قام في ساعات معدودة بضرب جميع القواعد والمطارات الحربية المصرية السرية، وفي المطارات التي كان يوجد فيها طائرات حقيقية وهياكل (ماكيتات) طائرات للتمويه، كان الطيران الاسرائيلي يعرف مسبقا ماذا يضرب، بحيث كان يقصف الطائرات الحقيقية ويترك الماكيتات سالمة، بقصد تشجيع "الصناعة الوطنية" المصرية طبعا!؛ وفي سوريا تم تسليم مرتفعات "الجولان" الستراتيجية بدون قتال، مع انه كان يحتشد فيها 70 الف جندي بأحدث وجميع انواع الاسلحة السوفياتية من دروع ومدفعية وطيران وقوات مشاة مؤللة والاسلحة المضادة للدروع الخ)، كما انها ـ اي تلك الانظمة "الوطنية" غرقت تماما في المحسوبية والفساد والانحطاط الاخلاقي والاثراء غير المشروع. ولكي تغطي فشلها التاريخي، ولخنق اي انتقاد مهما كان بسيطا، عمدت الى اعلان "حالة الطوارئ" (بحجة مواجهة اسرائيل وكشف مؤامرات "الاعداء") وتطبيق انظمة عسكرية ـ مخابراتية استبدادية دكتاتورية هي ابشع ما واجهته الامة العربية منذ عصر المماليك والعثمانيين. وحتى المناضل الوطني والتقدمي النقي الدكتور جورج حبش لم يسلم من الاعتقال على يد احد تلك الانظمة، وتم تهريبه بعملية فدائية نظمها رفيق دربه الدكتور وديع حداد. هذا النموذج السلبي الذي قدمته الانظمة "الوطنية" و"التقدمية" العربية، شكل حالة خذلان كبير للتوجه القومي لجورج حبش، بحيث بدا وكأن المشكلة ليست فقط في الرجعية العربية المتعاونة مع الامبريالية والمتواطئة ضمنا مع اسرائيل، بل وأن الحالة العربية كلها هي حالة مرضية مستعصية على العلاج ويكاد يستحيل الركون اليها.
ثالثا ـ في الاطار الاممي : في هذا الاطار كانت المعاناة الرئيسية لجورج حبش. فمن خلال وعيه الوطني الفلسطيني والقومي العربي، ونضاليته الصادقة، وتقييمه الايجابي للثورات التحررية والوطنية الدمقراطية التي اتخذت بعدا اشتراكيا في الصين وفيتنام وكوبا، واستنادا الى الاساس الاممي الاول الذي كان يقوم عليه الاتحاد السوفياتي وهو التآخي بين الشعب الروسي خاصة والشعوب السلافية عامة وبين شعوب آسيا الوسطى الاسلامية، كان جورج حبش يأمل في تحقيق نقلة نوعية في حركة التحرر الوطني العربية برمتها، بتوحيد مختلف فصائلها على اساس الفكر الاشتراكي العلمي، الماركسي ـ اللينيني، وكان يطمح الى تحويل "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" من تنظيم ثوري وطني دمقراطي برجوازي صغير، الى تنظيم طليعي بروليتاري يقتدي بالنظرية الماركسية ـ اللينينية، ويضطلع بدور استقطاب مختلف فصائل حركة التحرر الوطني العربية ودفعها الى تبني البعد الاشتراكي للثورة على الامبريالية والصهيونية والرجعية، والتحول الى جزء لا يتجزأ من الحركة الاشتراكية والشيوعية في العالم، والى حليف عضوي للمعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي. ونظرا للدور المركزي الذي اضطلعت به "حركة القوميين العرب" في ثورة التحرر الوطني ومن ثم في اقامة النظام الدمقراطي الشعبي في اليمن، وبناء الحزب الاشتراكي اليمني الموحد الذي قاد تلك التجربة، فقد كان جورج حبش يأمل بأن تكون تجربة اليمن الدمقراطي، من جهة، مثالا نموذجيا لاقامة النظام الدمقراطي الشعبي العربي، ولتحويل اليمن الدمقراطية، من جهة ثانية، الى قاعدة ثورية تقدمية عربية لجميع فصائل الحركة الوطنية العربية من منظور ايجاد الحل الثوري واعطاء البعد التقدمي، الاممي والاشتراكي للقضايا الوطنية العربية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
ولو كانت الظروف القائمة في ما كان يسمى الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي "طبيعية"، لكانت التطلعات التاريخية لجورج حبش اخذت فعلا مجراها "الطبيعي"، ولتغير مسار الحركة الوطنية الفلسطينية وحركة التحرر الوطني العربية، وبالنتيجة لتغير مسار التاريخ العالمي برمته؛ لانه كان من الواضح تماما، ويتضح الان اكثر فأكثر، ان مصير العالم يتوقف على مسار الصراع في المنطقة العربية وعليها.
وطبعا ان جورج حبش و"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" والنظام الدمقراطي في اليمن الجنوبية استـُقبلوا بالاحضان في الاتحاد السوفياتي والبلدان الاشتراكية السابقة، وتلقوا المساعدات بمختلف اشكالها، مثلما كان يتلقاها النظام المصري (الناصري) والسوري والعراقي (البعثيين) ومنظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات.
ولكن جورج حبش اصطدم بواقع مرير لم يكن ـ بنقائه الثوري واخلاصه المبدئي ـ يتصوره، وهو ان القيادة السوفياتية (وملحقاتها في مختلف الدول الاشتراكية والاحزاب الشيوعية العربية والحزب الشيوعي الاسرائيلي) لم تكن تؤيد مشروعه التاريخي لتحويل فصائل حركة التحرر العربية الى تنظيمات ثورية بروليتارية، تتبنى الاشتراكية العلمية والماركسية ـ اللينينية، ولاعطاء حركة الثورة العربية بعدا اشتراكيا. لانه اذا تحولت الثورة العربية الى ثورة اشتراكية، وفي حال انتصارها، فهذا يعني القضاء التام على النظام الرأسمالي العالمي برمته، وعلى الامبريالية والصهيونية العالمية. وهذا ما لم تكن تريده القيادة السوفياتية وغيرها من القيادات الشيوعية المنحرفة بأي شكل من الاشكال.
فالقيادة السوفياتية، منذ الانقلاب الستاليني على لينين واللينينية في 1918، لم تكن في حقيقة الامر سوى طابور خامس سري للنظام الرأسمالي العالمي، مهمتها الاساسية ـ وهي تتبوأ المركز القيادي الاول في الحركة الشيوعية والعمالية العالمية ـ ان تشوه بناء الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي (واستطرادا في البلدان الاشتراكية الاخرى)، وان تكبح الحركة الثورية، الشيوعية والتحررية الوطنية، العالمية، من الداخل، بمختلف اساليب التضليل والديماغوجية والمؤامرات السرية مع الاجهزة الامبريالية والصهيونية العالمية.
ولبعض الذين لا يزالون مضللين حول هذه النقطة الجوهرية والمفصلية، ليس من الضرر ان نذكر ببعض الحقائق التاريخية: بدأ الانقلاب الستاليني على اللينينية، مباشرة بعد ثورة اكتوبر الاشتراكية سنة 1917، خلال ظروف حرب التدخل الاستعماري ضد السلطة السوفياتية الفتية، التي كانت تشارك فيها 14 دولة امبريالية ورأسمالية عالمية واوروبية، جنبا الى جنب الحرب الاهلية التي كانت تشنها قوى القيصرية والرأسمالية الكبرى الروسية ضد العمال والفلاحين والجماهير الفقيرة والانتلجنتسيا الثورية الروسية.
وقد بدأت المؤامرة بمحاولة اغتيال لينين في 30 اب 1918، والتي قيل ان التي نفذتها هي الفتاة الصهيونية فاني كابلان، وشارك فيها الجاسوس البريطاني الصهيوني اليهودي الروسي الاصل سيدني رايلي. وقد لف الغموض التام مصير هذين الشخصين. وحينما اصيب لينين بالرصاص رفض ان ينقله الاسعاف الى المستشفى، وطلب نقله الى منزله، لانه شك بوجود "مؤامرة داخلية" ضده وخشي ان يتم الاجهاز عليه في المستشفى. وحينما مرض لينين بعد ذلك فإن ستالين "وضع يده عليه" بالمعنى الحرفي للكلمة وعامله معاملة اشبه ما تكون بمعاملة سجين سياسي. وهناك شكوك حول السبب الحقيقي لوفاة لينين، ويذكر انه بعد وفاته في كانون الثاني 1924، كشفت على جثته هيئة طبية مؤلفة من 25 طبيبا، ولكن ثمانية فقط وقعوا تقرير الوفاة. وبعد وفاة لينين، اطلقت عصابة ستالين الاشاعات غير الرسمية بأنه مات بسبب مرض زهري، بقصد تشويه سمعته الشخصية والسياسية. والمصير الغامض لكابلان ورايلي، ومن ثم الغموض الذي يحيط بموت لينين بعد ذلك، كلها وقائع تشير الى ضلوع الخائن ستالين في المؤامرة منذ البداية.
وكانت المؤامرة الامبريالية الغربية ـ الصهيونية ـ البرجوازية الروسية ـ الستالينية تقوم على ما يلي:
ـ التخلص من لينين واللينينيين.
ـ تحريف شعار الثورة الاشتراكية في بلد واحد، وتحويله الى شعار "بناء الاشتراكية" في بلد واحد.
ـ تحريف الاشتراكية وتحويلها الى نظام مركزي فرعوني تسيطر عليه الأجهزة البيروقراطية القمعية الستالينية، يقدم بعض الخدمات للجماهير الكادحة من اجل تضليلها وتنويم يقظتها، مقابل فرض السيطرة الكاملة للبيروقراطية على الطبقة العاملة والجماهير الكادحة والقضاء على مبدأ التسيير الذاتي الاجتماعي والدمقراطية الشعبية الحقيقية، والغاء مبدأ الشعب المسلح والاستعاضة عنه بالجيش المحترف واجهزة القمع المحترفة.
ـ تصفية الحزب الشيوعي البولشفي (حزب لينين) بالتدريج وتحويله الى حزب دكتاتوري سلطوي، يمارس دكتاتوريته على الجماهير، بدلا من دكتاتورية البروليتاريا الثورية ضد اعدائها.
ـ تنسحب الجيوش الاجنبية من روسيا السوفياتية، مقابل التزام القيادة السوفياتية (الستالينية وما بعدها) بعدم دعم الحركات الشيوعية والثورية، وخصوصا عدم دعم الثورات الاشتراكية في اي بلد خارج الاتحاد السوفياتي، بحجة "عدم التدخل" في الشؤون الداخلية للبلدان الاجنبية وما يسمى "عدم تصدير الثورة". وهذا يعني ترك الحبل على الغارب للدول الاستعمارية ان تسحق الحركات التحررية لاي شعب في العالم، بدون ان يحق للحركة الشيوعية، في الاتحاد السوفياتي وغيره، ان تدعم تلك الحركات. واي دعم سوفياتي "اضطراري" للحركات التحررية والثورية ان يتم بغرض حرفها عن الطريق السليم، واجهاضها والتآمر عليها مع الامبريالية والصهيونية العالمية.
ـ ان لا تتخلى القيادة السوفياتية عن مظهرها "الشيوعي" الشكلي، بل ان تعزز هذا المظهر الخادع، من اجل استخدام نفوذها "الشيوعي" في حرف اي حركة ثورية عن طريقها الصحيح والتآمر لتصفية القيادات الشيوعية الثورية الحقيقية في اي بلد كان، بالتعاون مع الدوائر الامبريالية والصهيونية.
وفي ظروف الحرب العالمية الثانية وما اسفرت عنه من القضاء على النازية والفاشية، فإن المؤامرة الامبريالية العالمية ـ الصهيونية ـ الستالينية اتخذت شكل ما يعرف باسم "اتفاق يالطا" لتقاسم النفوذ العالمي، وهو الاتفاق الذي تم بين روزفلت وتشرشل من جهة وستالين من جهة ثانية. وكانت اولى ثمار هذا الاتفاق حل الاممية الشيوعية (الكومنترن)، والاعتراف السوفياتي بتقسيم فلسطين واقامة دولة اسرائيل بدعم من الستالينيين.
وبعد موت الخائن ستالين تابع الانتهازي والخائن النيوستاليني نيكيتا خروشوف خط التفاهم مع الامبريالية العالمية، والتخلي عن الخط الثوري، والتخلي عن الاشتراكية ذاتها، والتخلي عن دكتاتورية البروليتاريا، تحت شعارات مثل "التعايش السلمي" بين الرأسمالية والاشتراكية، و"الطريق السلمي الى الاشتراكية" و"التطور اللارأسمالي" و"دكتاتورية كل الشعب".
وبعد خروشوف، تابعت القيادة السوفياتية البريجنيفية ثم الغورباتشوفية الخط الخياني ذاته، الذي قاد اخيرا الى اسقاط المنظومة السوفياتية والاتحاد السوفياتي ومحاولة تخريب روسيا تخريبا تاما وتحويلها هي ذاتها الى مستعمرة اميركية ـ صهيونية عالمثالثية.
وخلال هذه المسيرة الخيانية للقيادة الستالينية والنيوستالينية السوفياتية، تم التآمر بين الاجهزة السرية السوفياتية والغربية لاعدام وتصفية قادة شيوعيين ثوريين مثل: يوسف سلمان (فهد) وفرج الله الحلو وحسين الرضي (سلام عادل) وعبدالخالق محجوب وارنستو تشي غيفارا وغيرهم كثير.
كما عملت تلك القيادة الخائنة على تخريب الحكم الدمقراطي الشعبي المستقل في اليمن الجنوبية وافغانستان واثيوبيا، وضرب مختلف الفصائل والقيادات الحزبية بعضها بالبعض الآخر، توصلا الى ايجاد انظمة حكم عميلة تابعة مباشرة للاجهزة السوفياتية وارسال القوات السوفياتية الى تلك البلدان، كما كان الامر في اوروبا الشرقية، للوقوف بوجه اي تجربة اشتراكية دمقراطية شعبية حقيقية، ولمنع انتشار العدوى الثورية في محيط تلك البلدان، ولنسخ النموذج الدكتاتوري البيروقراطي الستاليني، الذي يعطي اسوأ فكرة عن الاشتراكية وينفر الجماهير الشعبية داخل البلد المعني، ومختلف الشعوب خارجه، من الاشتراكية والطرح الاشتراكي. وقد ادت هذه السياسة المشبوهة الى تمزيق اليمن الجنوبية والحزب الاشتراكي اليمني، والى اندلاع المذابح "الرفاقية" على اساس سياسي ـ شخصي ـ عشائري، وبالنتيجة الى السقوط التام للتجربة اليمنية كلها.
وبطبيعة الحال كانت القيادة السوفياتية قد عملت على "اقناع" اليمن الدمقراطية والحزب الاشتراكي اليمني وحركة القوميين العرب والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين على التخلي عن دعم الكفاح المسلح الذي كانت تقوده "الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج" في الخليج و"الجبهة الشعبية لتحرير عربستان" في ايران الشاهنشاه.
واخيرا فإن الاجهزة السوفياتية السرية عملت ايضا على اضعاف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بمختلف الوسائل الملتوية، وبالتعاون مع اجهزة المخابرات العربية "الصديقة للسوفيات" (لا سيما السورية والعراقية)، وكذلك اجهزة المخابرات الاميركية والاسرائيلية. ونشير على هذا الصعيد الى ما يلي:
1 ـ العمل لشق الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وخلق "جبهات" منشقة عنها ومنافسة لها.
2 ـ العمل لخلق "منظمات" و"احزاب" "شيوعية" و"ماركسية ـ لينينية"، منشقة ايضا عن "الجبهة" ومنافسة لها.
3 ـ ممارسة الضغط الشديد على "الجبهة" لوقف العمليات الخارجية، بحجة الطابع الارهابي لتلك العمليات، علما انه كان بالامكان تغيير اشكال واهداف تلك العمليات وتوجيهها نحو اهداف عسكرية وسياسية عدوانية مكشوفة. ولكن القيادة السوفياتية لم تكن تريد "تصويب" العمليات الخارجية، بل كانت تريد عدم ازعاج الامبريالية والصهيونية العالمية في نقاط ضعفها الخارجية وعدم توسيع نطاق المعركة العربية ضد الامبريالية والصهيونية.
4 ـ تفشيل العمليات الفدائية داخل ما يسمى "اسرائيل" او داخل الاراضي المحتلة في 1948، باعتبار ذلك "تعديا" على "الشعب الاسرائيلي" في "وطنه" وارضه، وهو ما يتناقض مع الاعتراف السوفياتي باسرائيل. وكان ذلك يتم بالضغط "الفكري" و"السياسي"، وكذلك بالتنسيق المخابراتي مع الموساد، حيث كان يتم اصطياد كوادر ومناضلي "الجبهة" بطريقة ذكية لا تنكشف الجهة التي "تهديهم" لقبضة الموساد.
5 ـ كشف واغتيال العدو اللدود للامبريالية والصهيونية المناضل الفذ وديع حداد؛ ولم يكن بالامكان تنفيذ هذه الجريمة بدون التعاون الوثيق بين المخابرات الاميركية والاسرائيلية، من جهة، والمخابرات السوفياتية والصدامية من جهة اخرى.
6 ـ الحؤول دون التعاون بين الاحزاب الشيوعية الكلاسيكية وبين "الجبهة"، والتشكيك بها وبخيارها اليساري الماركسي ـ اللينيني، بحجة انها تنظيم بورجوازي صغير و"يساري مغامر".
7 ـ واخيرا لا آخر، فإن الاجهزة السوفياتية كانت، من وراء الستار، تنسق مع الاجهزة السرية الاميركية والانظمة والاجهزة العربية لاغداق المساعدات المالية والتسليحية على المنظمات الفلسطينية المناوئة للجبهة، ولافتعال المعارك الجانبية معها لاغراقها في مستنقع النزاعات وعزلها عن قطاعات جماهيرية واسعة واضعاف توجهاتها اليسارية والماركسية ـ اللينينية.
XXX
نخلص من ذلك كله الى ما يلي:
أ ـ في وقت كان فيه جورج حبش وتياره ومناصروه يريدون توحيد النضال الوطني الفلسطيني والنضال القومي العربي؛ كانت القيادات البرجوازية والبرجوازية الصغيرة الفلسطينية تتهالك على الصلح والاعتراف والتطبيع مع اسرائيل والتخلي عن الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، وكانت القيادات والاحزاب "القومية" العربية التي وصلت الى السلطة تعمل على دفن كل ماضيها النضالي ذاته وتتهالك على اقدام الامبريالية الاميركية والصهيونية العالمية للتفاهم معهما، ومن ثم كان تلك القيادات والسلطات "القومية" تتآمر للتخلص نهائيا من "عبء" القضية الفلسطينية والقضية القومية العربية وخصوصا "عبء" آفاق البعد الاشتراكي للثورة العربية.
ب ـ حينما جاء جورج حبش وتياره ومناصروه الى تبني الاشتراكية العلمية والماركسية ـ اللينينية، كانت مؤامرة الانقلاب الستاليني والنيوستاليني على الاشتراكية والحركة الشيوعية العالمية قد بلغت مراحلها الاخيرة. وشكل جورج حبش وتياره ومناصروه عامل ازعاج للقيادة السوفياتية الخائنة، فعملت على ضربه بأسرع ما يكون دون ان تلفت النظر الى حقيقتها الخيانية، كي لا تتلقى ردة الفعل من قبل تيار جورج حبش. فطبق عليه المثل القائل "من بيت ابي ضربت".
بهذه السيرة الذاتية المأساوية الشخصية والسياسية عاش جورج حبش ضمن حلقتي صراع مركبتين: الاولى ـ الصراع ضد جبهة الاعداء المكشوفين: الامبريالية والصهيونية والرجعية. والثانية ـ الصراع "داخل البيت" ضد من كان يظن انهم اصدقاء وحلفاء ورفاق، في حين انهم لم يكونوا سوى امتداد للاعداء المكشوفين واخطر منهم.
واذا كانت مأساة جورج حبش تتلخص في انه "لم ينجح" في تحرير فلسطين، كما تحررت فيتنام او الجزائر، و"لم ينجح" في بناء التنظيم الماركسي ـ اللينيني القومي العربي الشامل والاممي، فإن هذه المأساة ليست سوى صورة مصغرة، او مكثفة، لمأساة الامة العربية بأسرها، ولمأساة العالم المعاصر بأكمله، المتمثلة في انحراف منظمة التحرير الفلسطينية والحركة الثورية العربية والحركة الشيوعية العالمية وغرقها في الانتهازية السلطوية التي ولدت الدكتاتوريات الستالينية واشباهها في الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي السابقين كما في البلدان العربية "المتحررة".
ولكن سيكون من الغباء المطلق ان يظن احد ان "الهاجس التاريخي" او "الامل التاريخي" الذي كرس له جورج حبش حياته الزاخرة قد ذهب ادراج الرياح.
ففيما مضى سبق للثورة الفرنسية الكبرى ان انتكست ايضا، وتحولت الى امبراطورية بونابرتية مهدت الطريق لعودة آل بوربون انفسهم الى الحكم في فرنسا. فهل أعاد التاريخ الملكية نهائيا الى فرنسا؟ ـ كلا! ان مبادئ الثورة الفرنسية عادت فشقت طريقها من جديد بدون البونابرتية.
والفكر الاشتراكي العلمي، والثورة الاشتراكية والتحرر الوطني والاجتماعي الحقيقي، ستعود لشق طريقها من جديد، في كل مكان، بدون الستالينية والدكتاتوريات المشابهة لها، وبدون خيانة القياداات البرجوازية والبرجوازية الصغيرة التي سترمى الى مزبلة التاريخ جنبا الى جنب الامبريالية والصهيونية والرجعية، تماما كما ألقيت الى مزبلة التاريخ البوربونية والبونابرتية والهتلرية.
والقيمة التاريخية لجورج حبش انه، وبالرغم من الانهزامية والخيانية الفلسطينية والعربية، وبالرغم من انهيار الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي، فإنه ـ وحتى الرمق الاخير ـ لم يفقد الامل والثقة التامة بالحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، وبقدراته الكفاحية، وبحتمية انتصار حركة التحرر الوطني الفلسطينية والعربية، كما لم يفقد الامل والثقة التامة بالفكر الاشتراكي العلمي والماركسية ـ اللينينية وحتمية انتصار الثورة الاشتراكية في العالم اجمع!
ــ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
* كاتب لبناني مستقل




https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن