العري عند الحقائق الأولى

غريب عسقلاني

2008 / 3 / 6

غريب عسقلاني - مقاربة نقدية

"قراءة في سيرة رجل يعيش تحت خط القهر"

في كتابه "حياة تحت خط الفقر"، يقدم الكاتب احمد بارود حكايته، بعيداً عن رقابة الآخرين، يحدق في مرآة ذاته، يعبر بوابة البوح ويقدم اعترفاته بشفافية تأخذ إلى الدهشة، ما يجعل اللغة عاجزة عن تقديم مفردات توازي الفرح أو الحزن، وتحيل إلى البكاء فهو خير ملاذ، حيث تلعب اللغة البكماء دور العاصم من ارتدادات الانفجارات الداخلية، ذلك البكاء الذي يأخذ صاحبه إلى الصمت، الذي جعل أحمد الفيتوري يحيط شفتيه, ونافذ عطية يقص لسانه، فيما اكتفى سليمان أبو عبيد بأهون العذابات, فحبس لسانه طوعاً واكتفى بممارسة الهمهمة.
فهل ما يقدمه كاتبنا أحمد بارود هو بعض الهمهمة التي ناءت بها مفردات اللغة المتداولة، حيث يقدم السرد وعلى امتداد 173 صفحة مناجاة بين الراوي/ الكاتب والراوي/ البطل، وكأن السارد هو البطل/ الضحية، وإن شئت هو الفاعل المفعول به، فلا انفصال بين الراوي والمروى عنه،فهو مهما حاول الابتعاد عن ذاته يعود إليها، ما يؤكد واقعية الأحداث في سيرة صبي عاش في المخيم وطناً قسرياً مرفوضاً، يعيش الفقد والفقر والحاجة، زاده اليومي حكايات أبيه عن وطن مصادر على مرمى النظر، والعبور إليه حتمية واجبة، ذلك الصبي الذي إذا عضه الجوع يسطو على المزارع فينال شيئا يقيم الأود، ويصبح الشقي المرصود من النواطير, حتى داهمته النكسة 1967 يافعا في السادسة عشر من العمر، ورأى العبور إلى الوطن ميسوراً, بعد التخلص من طارئ الاحتلال, فيختار دون سابق تخطيط المواجه, ويصبح بين عشية وضحاها الفدائي الذي يقف له ناس المخيم ونواطير الحواكير احتراماً وتقديراً, فالحال والأدوار ما قبل الحرب ليس هو الحال والأدوار بعدها.. والاندفاع نحو الثورة لا يتطلب أكثر من المزيد من الفقد والقهر ونهوض جذوة السيرة التي أوقدها الأب في صدره، ذلك الأب الذي طالما أكلته الحسرة، وزمّل خطواته قلة الحيلة وقصر ذات اليد.. إذا لابد من كسر المعادلة التي أخذته إلى المخيم وطناً أزلياً، فالأمر جلي, أما التحرير أو الشهادة .. طرفي معادلته الجديدة التي لم تتسع لخيار الوقوع في الأسر، والغياب حيا ست عشر عاماً، لم يتوقف خلالها عن تفقد وجهه في المرآة، يطمئن على ملامحه، ويراقب ذاته يوميا يطمئنً على الولاء للوطن، يطلق العنان لعقله لمحاكمة القضايا والآراء بحرية المتأمل المجرب الذي يدفع عمره قطرة قطره لاجتياز البرزخ الفاصل بين ليل السجن ووهج نهارات الحرية..

****
لحظة فارقة كما الحلم تعبر به من البرزخ، في صفقة تبادل الأسرى،ليعود إلى المخيم شابا فقيرا كل مؤهلاته تجربة الحياة في ليل طويل، وبيت منسوف لم ينهض بعد، دخل السجن صبياً بلا صنعة, وخرج منه رجلاً "أمياً" بلا مؤهلات تسوغ الالتحاق بعمل..ليس أمامه غير الوقوف أمام وكالة الغوث التي تبنت قراراً أميماً بتشغيل المحررين, عمال نظافة في أزقة المخيم..
يا لها من فرصة سوداء تنطوي على خيار مرعب..
ما العمل يا هذا الذي حمل البندقية حتى لا يتكرس المخيم وطناً أزلياً،هل نسيت؟!
يوم اعتقالك أعلن المخيم الحداد وتدثر بالسواد، ويوم خروجك هزج الناس وقامت الدنيا فرحاً وحبورا, يوم عضك الجوع وسؤال الحياة لم يسمع أحد أنين وجعك, وها هو القرار الأممي يرشحك جامع فضلات لمن يستوطنون المخيم دار بقاء.
أي هزيمة يا هذا، وأي مهانة.. هل تدخل مع الوطن والوطنية في محكات جديدة، وتقارع أسئلة جديدة، تقرع قشرة الدماغ.
ما العمل والحرية وهم، والسجن قدر..
كنت في الأسر تحصل على ثلاث وجبات يومياً، وتطمئن على ملامحك في المرآة، وفي الحرية لا رغيف يلوح في الأفق، ولا تتجلي ملامح وجهك في المرآيا، والمرآيا في فضاء الحرية لا تعكس صورها إلا عند المواجهة, والمواجهة أولوية تطلب رغيف الخبز أولاً...
الرغيف يلوح في غياب الصنعة والشهادة خلف بوابات المفارقة, تعبر بك إلى الوطن أجيراً/ عاملاً/ خادماً..
أي سخرية تلك التي دفعتك مع طوابير العمال, وأي مفاجأة كانت تنتظرك هناك..
- ممنوع الدخول..راجع مكتب المخابرات.
همهمات ساخرة، أو مستهجنة أو ربما متشفية."يعمل فدائي، وعايز يشتغل عندهم.. مجنون.."
"عندما تكون أنتَ وليس أنتَ في آن معاً.. هذا هو قيد الموت، عندما لا تعرف من أنت بين الحزن المقيم والفرح المصادر"
هو قيد الموت الذي أخذ طفلك الأول جوعاً ومرضاً.
هل تظل هكذا حتى يأتي الموت على أطفالك الآخرين.
أم تعود إلى سيرة ما قبل الحرب مقيد هذه المرة بالزوجة والأولاد, تجلب من خير المزارع ما ويطرد شبح الموت..
تدرك الزوجة الصابرة الأمر فيعذبك الاعتذار.
لكنه الاحتلال يا عزيزتي والحال يقبل التبرير، ولا جدوى من التفتيش عن المخيم بين التاريخ والجغرافيا, باستبطان السير السالفة واللاحقة في ثنايا الأعراف والخبرات والوصايا, بحثاً عن ثقافة الوطن والمواطنة, لتحديد ملامح الهوية, وإيجاد مخارج موضوعية لا تقوم على المطالبة باستحقاقات عمل هو فرض عين على كل فرد, أجره عند الله, وخيره على الوطن.
لا ضرورة للفيصل طالما هادنت بعد أن أصبحت رب أسرة وتورطت بالزوجة التي تورطت بك، وانجذبت إليك في محطة حلم مباهاة بالانتساب لمناضل, تبنى معه نواة وطنية محرومة من إمكانيات الوطن, تفقد طفلها الأول وترى بعين قلبها موت ذراع الطفل الثاني نتيجة رعونة الطبيب عند الولادة، لم تقترف المسكينة ذنبا سوى أنها قدمت طفلاً عفياً، ولم يقترف الطفل ذنباً سوى انه تهيأ للبهاء قبل مغادرة كهف الرحم..
أي دلالة في موت ذراع الطفل فور خروجه من أسر الرحم، وقصور يد أبيه فور خروجه من الأسر إلى وهم الحرية بعد غيبوبة حلم امتدت ست عشر عاماً، انتظم خلالها الطعام ثلاث وجبات يومياً ساعدته على اجتياز الرحلة مع بعض علل وأمراض، لم تقضِ على حلمه بوطن محرر.. وها هي الحرية مثل طائر مقصوص الجناحين ُرّوض وُدّجن مثل طيور الزينة ليليق بقطار أوسلو الذي لا يعترف بصيرورة التاريخ وثبوت الجغرافيا, ويغير وجه الجغرافيا للحد الذي تفقد فيه تواصلها مع تواريخها، وتقطع الصلة مع أجيالها وأنسابها ضمن معادلة العولمة, التي جعلت من أركان الدنيا عناقيد حول المركز تدور في فلكه، وتستهلك أفكاره بآليات الاجترار العصرية, التي لا تملك الوقت لهضم السليم، وعليه فلا بأس من حلول آنية مرحلية تأتي على بعض الجغرافيا، تقيم عليها كياناً سياسياً بديلا عن الوطن، ولا بأس من ترسيم حدود بين الوطن والوطن يصبح معه وطن الحلم نتوءًً جافاً يعيش على فضلات الوطن الذي أصبح وطناً أزلياً للأغراب.
لا بأس فالوقت اختيار, ومن لا يركب القطار يتوه بين المحطات، لا مندوحة من قضم الحلم حتى وإن أصبح الحلم، اصغر من حجم الكف وأضيق من مساحة الرئة، يدار بسلطة وطنية، يكون فيها للأسرى والمحررين وزارة على رأسها وزير كان أسيراً..
ولأن الجوع في ظل الاحتلال مبرر، فإنه لا يقبل التبرير في ظل السلطة الوطنية وسيادة القانون الوطني, فلتذهب يا هذا إلى الزميل الوزير, يأتيك كما الآخرين بكتاب من سيادة الرئيس ولا بأس لو فُرغـت في وزارة الثقافة، تتنسم الثقافة الوطنية وتسد رمق الزوجة والأولاد..
لكن معاليه نسى" أو ربما تتناسى لدواعي فصائلية", تحديد ماهية الوظيفة, فأتي بكتاب مفتوح أمام أولى الأمر في الوزارة، فلم يعتمدوا التاريخ ولا الجغرافيا في غياب وصية العم أو الخال ا أو العقيد أو العميد القريب أو النسيب، احترموا كتاب الرئيس وباركوك فراشاً في الوزارة تقوم على خدمة صناع الثقافة الوطنية .
غفلة الوزير أو تغافله, أخذتك إلى بداية مشوار تسولت خلاله ترقية وصلت بك حدود رئيس شعبة بعد عشر سنين، رأيت خلالها ما رأيت واكتشفت أن الوطن خارج الوزارة غير الوطن داخلها.
بين الحكاية والرواية
يستبق احمد بارود القارئ ويصنف عمله حكاية وليس رواية, وهنا تبدو عملية التصنيف غير مجدية لمحاكة العمل على شروط العمل الروائي, بالرغم من امتلاكه والقدرة على القص، ولكن إذا اعتبرنا أن الحكاية هي الخميرة الأولى للرواية, فلماذا لم يبلور كاتبناً سردياته آخذاً في الاعتبار أدوات وتقنيات الرواية، وهو القادر على ذلك إذ تتجلى من خلال العمل قدرته على الإمساك باقتدار بزمن القص والقدرة على الاستيطان، والاندياح عبر تيار الوعي، بالإضافة إلى المعرفة بالتاريخ والسياسة والثقافة الشعبية وعلم الاجتماع والاقتصاد, وهي معارف تفتح بوابات رحبة للتعامل مع البنية الروائية..
في اعتقادي أن ما قدمه كاتبنا أوسع من حكاية, لما تضمنه من طرح مفاهيم فلسفية وتخريجات لمفاهيم حول الوطن والوطنية وجذور الصراع وتفاعلات الحياة في الشتات, واستقصاء مفاعيل الحياة في المخيم, إضافة إلى وعي خاص بالدين والتدين, هذه القضايا التي اعتمدت في ظاهرها على البوح والعري أمام الذات دون حواجز, أكسبت البوح مصداقية عالية وولدت إحساساً حارقاً بالأسى والألم, أخذت العمل إلى ما هو أوسع من الحكاية، أو ربما هي أقرب إلى السيرة الذاتية.
فهل العمل سيرة ذاتية تعتمد على إعادة ترتيب أجندات صاحبها أم أنه أخذ سيرة روائية لعبت فيه تقنيات الكتابة دوراً مكملاً ومضيئاً..
اعتقد أن هذا العمل مراوغ عصى على التصنيف, ولكنه يقدم في نهاية الأمر شهادة حارقة فيها من الألم بقدر ما فيها من الصدق, وفيها من التشظي بما يعكس حالة الفلسطيني المؤرق بالوطن, الذي لم ينل الراحة بعد, والذي لن ينالها, لأنه تعود النوم وعيونه مفتوحة يطارد أشباح جنية تأخذه إلى فضاء آخر يعيش فيه بين اليقظة والحلم.. ولا يحصد عند الصحو غير ألم الصداع,
فهل هذا قدر من قدم ولم يحصد في زمن انفلات المعايير وغياب منطق الحالة.
---------------------
*أحمد بارود سجين محرر, يكتب لشعر العامي والأغنية والمقالة والرواية
* حياة تحت خط الفقر, نشر على نفقة المؤلف 2006



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن