بيروت،أدب وفن

عاصم بدرالدين

2008 / 2 / 17

Ι- بيروت أدب وفن
الحديث عن بيروت هنا لا يهدف إلى الحديث عن الجغرافيا والبيئة والأحياء والمساكن والحدود،بيروت هنا شكل آخر، كواقع أدبي وفني،كملهمة وكموضوع متناول،بيروت كمدينة استضافت شعراء وروائيين وفنانين،بمعنى آخر سنتحدث عن بيروت والأدب والفن.
1- بيروت القصيدة والشعراء.
الشعر هو أقدم الآداب العربية وبيروت هي أحدى أكثر المدن العربية الحاضنة للشعر والشعراء من لبنانيين وعرب،ومن المدن التي تناولها الشعر والشعراء بغزارة وكانت هي نفسها مركزاً لنشر العديد من منشوراتهم،ولعل أبرز الشعراء الذين مروا في بيروت وكانت إنطلاقتهم هو الشاعر الفلسطيني محمود درويش الذي قام بنشر ديوانه الأول خارج فلسطين عن طريق "دار العودة" في بيروت عام 1966وعاش فيها حتى عام 1982 تاريخ خروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت،وكانت نظرته إلى المدينة،كساحة للمقاومة والنضال كقوله مثلاً في قصيدته "بيروت":"بيروت خيمتنا/بيروت نجمتنا/بيروت تفاحة/والقلب لا يضحك/وحصارنا واحة في عالم يهلك/سنرقص الساحة/ونزوج الليلك/لن نترك الخندق/حتى يمر الليل/بيروت للمطلق/وعيوننا للرمل/في البدء لم نخلق/في البدء كان القول/والآن في الخندق/ظهرت سمات الحمل"،من جهة أخرى تعتبر قصيدة "مديح الظل العالي" التي كتبها درويش بعد خروجه من لبنان رسالة إعتذار فلسطينية لبيروت وذم للنظام العربي الذي باع فلسطين والمدينة فداءً لـ"النفط المقدس".شاعر آخر طبع إسمه في ذاكرة المدينة الشاعرة،نزار قباني الذي أخذ من بيروت مكاناً شبه دائم لإقامته وأسس فيها داراً للنشر يحمل إسمه لنشر دواوينه،رأى في بيروت،مدينةً للحب في قصيدته "بيروت والحب والمطر" قائلاً:"الحب في بيروت كالله موجود في كل مكان" ورأى فيها المدينة المظلومة في قصيدته "إلى بيروت الأنثى مع الإعتذار" قائلاً:"(...) آه يا عشاق بيروت القدامى – هل وجدتم بعد بيروت البديلا؟/إن بيروت هي الأنثى التي – تمنح الخصب وتعطينا الفصولا/إن يمت لبنان..فمتم معه – كل من يقتله..كان القتيلا" ورأى فيها من جهة أخرى المدينة الظالمة-القاتلة في قصيدته الموجهة إلى زوجته "بلقيس" التي قتلت عام 1982 في إنفجار إستهدف السفارة العراقية في بيروت:"(...)أتراي ظلمتك إذ نقلتك/ذات يوم..من ضفاف الأعظمية/بيروت تقتل كل يوم واحداً منا.../وتبحث كل يوم عن ضحية(...)/بلقيس.../إن الحزن يثقبني../وبيروت التي قتلتك..لا تدري جريمتها/وبيروت التي عشقتك/تجهل أنها قتلت عشيقتها..وأطفأت القمر".
وكان تأسيس مجلة "شعر" للشاعر السوري يوسف الخال في مرحلة الخمسينيات-الستينيات قد جذب العديد من الشعراء أمثال أدونيس الذي قال في بيروت أجرأ القصائد وأكثرها واقعية،وكانت القصيدة بعنوان "بيروت":"1- يسكن في بيروت والأرض في عينيه أبجدية/وخمس جامعات/والصحراء تفاح وأغنيات/لكنه يموت-كأنه يسكن في جمجمة/بغير أيامٍ ولا هوية/2-كانت المائدة/غرفاً/يتصايح فيها الضيوف/وكان لحم الخروف/جبلاً،والشراب/ساحراً حوله يطوف/وعلى الشرفة الذهبية في قمة المائدة/كان وجه يبيد مع الأوجه البائدة-كان وجه الكتاب/3- عائشة مرت،فكل ليل/تخت،وكل ناقةٍ مصباح/للجسد الضرير أو للزمن الضرير/عائشة تجتاح-لون الشهوة إجتياح راقصها الأمير وهو لابس قبعة الشحاذ/أو راقصها الشحاذ وهو لابس قبعة الأمير/سامرها غنّى لها حتى ذوى الكلام/لف عليها زنده وغطى سرتها،ونام..." ،وأعتبرت مجلة "شعر" أهم مجلة أدبية وثقافية في تلك الفترة وقد كانت مطلقة التحديث في الشعر العربي عبر تبنيها شعراء أمثال أنسي الحاج الذي نشر قوانين الشعر النثري على صفحات المجلة وديوانه الثوري "لن" الصادر عام 1960،وكانت المجلة نفسها مكاناً لتألق الشاعر السوري محمد الماغوط واللبناني شوقي أبي شقرا والخال نفسه،لم تك الساحة الثقافية والأدبية خالية من الدوريات فقد سبق لسهيل إدريس أن أسس مجلة الآداب عام 1953 التي ما زالت تصدر حتى الآن،إلا أن الفضل في الريادة والحداثة الشعرية يعود لمجلة "شعر".أما الروائية السورية غادة السمان صاحبة التجارب الشعرية القليلة فقد خصت بيروت بعدة قصائد منها قصيدة "أحبك يا بيروت":"رغم كل شيء/رغم أنني رحلت ثلاث مرات حول كوكبنا/وبدلت حيواتي ثلاث مرات/لكني ما زلت حتى اليوم/أجفف البنفسج والياسمين/بين أوراق خرائطك وصورك وتذكاراتك حين تغني فيروز بذلك الصوت العذب الهش المجرح بالحنين بعدك على بالي/وتنمو المدينة في ذاكرتي جرحاً/لا أريد أن أشفى منه،فمرضي هو علاجي!" ،وقصيدة أخرى بعنوان "بيروت":"بيروت ذاكرة تفقد ذاكرتها/ومتسولة مصابة بعقدة العظمة وإنفصام الشخصية/ونحن تعبنا من تناقضات السوريالية السياسية/تعبنا من يسار الكافيار وكرنفالات الجنون والدم/تعبنا من أرستقراطية بعض أبناء المخيمات وبروليتارية بعض الباشاوات ودروشة بعض أبناء القصور وفلسفة الرشاشات والجزمات الحربية وصوفية دفاتر الشيكات والغانيات.../بيروت،كيف أنساك/وقد قاسمتك الحب مرة/والموت مرات؟"،اما الشاعر اللبناني خليل حاوي الذي إنتحر بعد دخول الجيش الإسرائيلي إلى بيروت،فتطرق إلى "ليالي بيروت":"ليالي بيروت/في ليالي الضيق والحرمان/والريح المدوي في متاهات الدروب/من يقوينا على حمل الصليب/(...)/ويثور الجن فينا/وتغاوينا الذنوب/والجريمة:/"إن في بيروت دنيا غير دنيا"/"الكدح والموت الرتيب"/"إن فيها حانة مسحورة"/"خمراً،سريراً من طيوب"/"للحيارى"،لم تكتفِّ المدينة بإستضافة الشعراء السوريين حيث أنها إجتذبت أيضاً شعراء من العراق أمثال الشاعرة نازك الملائكة مطلقة القصائد العامودية عبر قصيدتها "الكوليرا" فالراحلة العراقية أقامت في بيروت زمناً قصيراً ولكنها ثابرت على نشر قصائدها ومقالاتها في مجلة الآداب وقد صدر لها في بيروت مجموعتها الشعرية الثالثة "قرارة الموجة" أما الشاعر العراقي الآخر بدر شاكر السياب فقد كان له دور كبير في المجال الشعري البيروتي حيث نشر فيها ديوانه الأبرز "أنشودة المطر عام 1960. أما "حامل الفانوس في الليل الذئاب" سركون بولص فقد قدم إلى بيروت محملاً بمخطوطة "الملك لير" لجبرا إبراهيم جبرا لتنشر في مجلة "شعر"،ليعمل فيها لاحقاً قبل رحيله إلى "مدينة أين".أما الشاعرة العراقية لميعة عباس عمارة فقد كتبت أجمل وأرق الكلمات على الإطلاق بحق بيروت في قصيدتها "ملهمة الشعراء":
قصيدة أنت يا بيروت مبهمةٌ ما قالها شاعرٌ لكن تخيلها
أراد معجزةً في الفن خالقها فلمَّ من أجمل الأشياء أجملها
وصبَّ من روحه في ناسها ألقاً وحين أكملها صلّى وقبلها.
في مقارنة بسيطة للقصائد المذكورة أعلاه،نستطيع أن نرسم لبيروت صورة،صورة متنافرة ومتناقضة متباعدة،ولكنها جميلة وبديعة،قصيدة رأت فيها مدينة نضال أو مدينة للموت والنهاية،وقصائد أخرى رأت فيها الحب والبداية وبين الحالين حالم يبحث عن مدينة الكتاب ليفاجأ بتحولها إلى سوقاً للبغاء وساحة للعرض والإستهلاك،بيروت في القصائد سوداء حمراء وبيضاء،مدينة للفقر والدم والرقة والرخاء،مدينة لكل شيء،وكل شيء في المدينة،قصيدة هي بلا قوافي وشاعرة بكلاماتٍ ومعانٍ لا تنضب،لكن أين بيروت من الشعر اليوم؟وما هو المجال المتاح لشعرائها وقصائدها؟
ما زال الشعراء الكبار يتوافدون على بيروت من محمود درويش وأدونيس وسعيد عقل وآخرين وما زالت المدينة تفتح أبوابها لكل الوافدين الجدد إلى عالمها الشعري أكانوا من الداخل أو الخارج،فالمدينة لم تتوقف بعد عن توليد الشعراء،ولكن بمستويات متباينة!ولم تمل من إحتضان القدماء من جديد لتفتح المقاهي لهم كما كان "الدولتشي فيتا" في الروشة و "المودكا" و"الويمبي" في شارع الحمرا،صحيح أن أسماء المقاهي تغيرت اليوم إلا أن محاولة العودة إلى الماضي الجميل عبر إستنساخه أكثر ما يميز هذه المدينة في وقتنا الحاضر،فعلى سبيل المثال حانة "جدل بيزنطي" في شارع كاراكاس-الحمراء حيث تعقد الندوات الشعرية الحوارية للعديد من الشعراء ومقهى "تاء مربوطة"أيضاً..إلخ.شعراً: إستنساخ الماضي لإعادة المجد لـ"ملهمة الشعراء".

2- بيروت الرواية والروائيين:
يقول البعض:"القصيدة وبيروت" أهم من "الرواية وبيروت"،فالرواية العربية إستفادت من الواقع الثقافي للمدينة ولكن الغلبة كانت للشعر تاريخياً،حتى مع إعتبار رواية خليل خوري (1838-1907)"واي إذن لست بإفرنجي" المنشورة عام 1859 أول رواية عربية على الإطلاق،وخوري الشاعر والصحفي مؤسس جريدة "حديقة الأخبار" من أولى الصحف العربية،جعل من بيروت مسرحاً لأحداث روايته الساخرة "واي إذن لست بإفرنجي".وتاريخياً كانت بيروت أول مدينة عربية تنشر فيها الرواية الثورية "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ عام 1959 بعد أن منعت في القاهرة،ومما لا يرقى للشك أن الأحداث التي مرت على بيروت ومرت بيروت فيها كانت "نهر أفكار" للعديد من الروائيين اللبنانيين والعرب.
ومن أكثر الروائيين الذين تناولوا بيروت وأحوالها الروائية السورية غادة السمان والروائيين اللبنانيين توفيق يوسف عواد الياس خوري وربيع جابر و المصري صنع الله إبراهيم.فالكاتبة السورية غادة السمان ركزت في كتاباتها على بيروت-المكان،ففي روايتها "كوابيس بيروت" التي بدأت بكتابتها في 13 تشرين الثاني عام 1975 أي مع بداية الحرب الأهلية اللبنانية وأنهتها في 27 شباط 1976 والحرب ما تزال مستمرة،197 كابوساً تعرض خلالهم السمان فظائع المكان وسوداويته ودمويته،كل كابوس كان كابوساً معاشاً في المدينة ولها وتعرض للتناقض الحاصل بين سكان بيروت وصراعها –أي الكاتبة- مع نفسها ومع أفكارها السابقة واللاحقة،صراع الناس مع بعضهم وتصور للقارئ يوميات "القتل العادي" والسهل البسيط،وحالة الجنون السائدة التي حولت أرقى مدن العالم إلى مدينة الوحوش القتلة،مدينة الجحيم!
"حرب لبنان" فعلاً كانت كابوساً كبيراً مكملاً لكوابيس غادة السمان الصغيرة المتخيلة،كابوس حقيقي مليء بالدم والجثث المرصوفة على جوانب الأزقة،محتلةً وسط المدينة وشوارعها،كانت جثث الطوائف الهامدة،المتنافرة وذخائرها تلقى في قلب بيروت وعيونها لتصنع "كوابيس بيروت"،كوابيس لا نهاية لها حتى اليوم،ما تزال مستمرة،وما تزال الطوائف والملل تحلم والحلم الطائفي يصير في بيروت كابوساً لا يولد سوى الدم والرعب والخوف و"الموت الرتيب".
"لا بحر في بيروت" قصة للسمان في مجموعتها القصصية التي تحمل الإسم نفسه،تحكي فيها قصة تلك الفتاة الدمشقية التي حلمت ببيروت كمدينة للحرية والجمال والحب،وحين قدمت إليها رأت صورة مغايرة عن تلك التي رسمتها في مخيلتها،رأت أناساً غير الناس وبحراً غير البحر ومدينةً أخرى تبحث عن بحرها،مدينة من الإسفلت،حتى شاطئها تعبد،وبحرها تسيَّج ومجتمعها مزيفاً وملطخاً بالأصباغ،لتنهي قصتها بنافذة أمل ورغبة وتمني بمستقبل ممكن "بيروت،يا حلوة،يا حزينة،يا وجهك الملطخ بالأصباغ لست مزيفة،لكن الأصباغ صارت جلد العالم،ولست شريرة،لأنك دمشق وباريس والصين وكل مكان..ولأنك من نفوسنا..ويوم نجد جميعاً بحرنا يعود إليك بحرك".
ميزة غادة السمان تركيزها على البعد المكاني "المخرب" و "المفقود" للمدينة،أما الروائي اللبناني الياس خوري فيبحث في رواياته عن الإنسان في بيروت،البيروتيين(كما يسمون) وأحوالهم وحالاتهم،ففي "مملكة الغرباء" يتحدث خوري عن العالم كله بوصفه مدينة للغرباء،ولكنه يخص العاصمة اللبنانية بهذا اللقب،بيروت برأي خوري مدينة للغرباء،مدينة لموشي أو يوسف اليهودي إبن وديع السخن الذي أراد أن يخرج من بيته وتقاليده إلى بيروت حيث الحرية ولكنه يذهب إلى دولة "إسرائيل" مع بدايات الهجرة اليهودية إلى فلسطين،أما وداد القادمة من أوروبا الشرقية إلى بيروت وهي لم تبلغ بعد الثلاثة عشرة من العمر ليشتريها إسكندر نفاع من تجار العبيد عام 1920 ومن ثم يتزوجها نفاع نفسه ويسكنها في بيت خاص بعد إكتشاف زوجته لخيانته لها،وتعمل وداد على رعاية إسكندر نفاع بما تبقى له من أوراق الحياة،وبعد موته تصاب وداد بالجنون،وتبدأ أحلامها بالتواتر وتعيدها إلى مكان غريب ومألوف في الآن معاً وهو مكان ولادتها،حتى أنها تستعيد لغتها الأم..أما فيصل الفلسطيني الذي يقطن مخيم صبرا وشاتيلا وشهد مجزرتاه الداميتين،وقتل في الثانية،كان يحلم بإستمرار بالعودة إلى وطنه الأول:فلسطين.
بيروت مدينة للغرباء،يسكنون فيها ويحلمون بالعودة إلى مكانهم الآخر أو لنقل إلى مكان المنشأ،حتى وهم فيها يصنعون مجتمعاً مشابهاً لمجتمعهم الأصلي،أرا كيشيشيان أرمني يعمل مصوراً في شارع الحمرا منذ السبعينيات،مسيرته المهنية إنحصرت في المؤسسات الأرمنية الموجودة في لبنان (نادي الإنترانيك الرياضي) من لاعب إلى مدرب فإداري وصحفي في مجلة النادي ،أما يوم الأحد من كل أسبوع فيتحول فيه شارع الحمرا إلى "داون تاون مانيلا" حيث يجتمع أبناء الجالية الفلبينية في كنيسة الكبوشية فيلتقون ويتسامرون ويتسوقون،حتى أن محلات ومطاعم خاصة فتحت لتلبي حاجات هؤلاء "الغرباء" .
ولماذا أخرج خارج إطار الصورة اللبنانية؟ أليس في جنوب بيروت إمارة شيعية وفي شمالها أخرى مسيحية وفي شرقها إمارة سنية؟إذاً هي مدينة للغرباء،لا يربطهم فيها إلا اللحظة المتجسدة في المكان-المسكن المؤقت،تؤمن لهم كل شيء،كل شروط الإندماج ولكنهم سيبقون غرباء عنها وفيها،لأنهم أولاً راحلون،وثانياً لأنها ليست لهم،لأن بيروت ليست لأحد،فالكل فيها غرباء وراحلون..
أما في "الوجوه البيضاء"فيبرز خوري أثر الحرب الأهلية على الناس،على سكان المدينة من خلال عرضه لقصة "خليل أحمد جابر"،أحد سكان بيروت الغربية الذي فقد أبنه الوحيد (أحمد) في هذه الحرب،يصف خوري علاقات الناس ببعصهم ومشاعرهم وأفكارهم."خليل أحمد جابر" الذي يصاب بالخرف والجنون،الذي يفرضه عليه-ربما- جنون المدينة،يتجول في شوارع بيروت ويطلي الجدران والوجوه والأحداث باللون الأبيض ليكشف عنها،وليوجد أخيراً مقتولاً-محروقاً بجانب تمثال حبيب أبي شهلا في منطقة اليونسكو،جابر هو حالة رأينا من خلالها حالات أخرى مثل المهندس علي كلاكش والدكتور الأرمني خاتشادوريان ومحمد فخرو وزوجته فاطمة ونديم نجار وزوجته ندى (إبنة خليل أحمد جابر) وآخرين لم يطاولهم خيال خوري أو لم يذكرهم إلا أنهم موجودين في بيوت المدينة،فأحداث الحرب اللبنانية كانت الأكثر تأثيراً على المدينة وناسها و"القتل على الهوية" والمجازر المتنقلة طبعت صورة "الوحش" في وجه بيروت،وترسباتها لا تزال عالقة في نفوس "البيروتيين".هذه البقايا الحربية ستكون أحد أسباب تكرر الحدث،فسكان بيروت،والتجربة تثبت،لا يستفيدون من التاريخ،لا يستثمرون التجارب،يقعون في الخطأ مرة وإثنان وثلاث،لأنهم غير مؤمنين بمدينتهم،هي ساحة بالنسبة للكثير منهم،وليست غاية،بيروت غاية بذاتها،وهم غرباء و"وجوهاً سوداء" لا تحلم إلا بالرحيل،لذلك حرب بيروت قد تتكرر دائماً،زد على ذلك تناقض القيم لدى سكانها،ففي شمالها غير ما في جنوبها وشرقها ووسطها وهذه هي حالة لبنان كله،أفكار متناقضة لا يوحدها شيء،حتى عامل المكان المشترك ما عاد عنصراً موحداً لأن كلاً من "بيروتاتها" قد بنت سوراً حول "محميتها" ومنعت التخالط الذي يؤدي حكماً ومع الوقت إلى التجانس،فبيروت أو بالأحرى سكانها متنافرين،متناقضين،متباعدين،ومشركين في المدينة وتاريخها وأهميتها..يقال"المؤمن لا يلدغ من الجحر مرتين"..و أهل بيروت "المفترضين" لا يؤمنون بها،لذلك سيلدغون من جحر الحرب الأهلية مرة أخرى،وهذا ما لا نتمناه!
ولا بد من تسجيل نقطة أخرى هامة،تتعلق خصوصاً بالرواية اللبنانية التي سجلت تطوراً مميزاً في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية،وكأن للحرب إيجابيات!وهنا سؤال آخر عن الإبداع،أهو وليد الفرح أم المأساة؟
"ربما هي مهمة الرواية أن تحوّل المتخيَّل إلى حقيقة والوهمي إلى واقعي،للرواية أن تحوّل الأفكار إلى واقع"( زاهبي وهبي،بيروت المدينة المستمرة،ص 193) ربما هذا صحيح،لكن في بيروت،مهمة أخرى،مهمة الرواية فيها سرد الواقع،نقل الأفكار والأحداث إلى كلمات مطبوعة ومبعثرة على الورق،لأن بيروت بناسها وأحداثها رواية بكافة عناصرها،الشخصيات والزمان والمكان والعقدة والحل..!
إن إختيار منظمة اليونسكو بيروت عاصمة عالمية للكتاب عام 2009 يطرح عدة قضايا أولها:قضية الكتاب وبيروت،هل تحولت بيروت إلى مطبعة دون قراء؟ دور نشر كثيرة وإنتاج نسبياً مرتفع مقارنة مع إنتاج الدول العربية،متدنٍ جداً مقارنة مع إنتاج دور النشر الأوروبية والأميركية،وعدد القراء بدأ بالأفول والإضمحلال ومعارض الكتب السنوية تشهد!
والقضية الأخرى تتعلق بالرقابة في بيروت ومستواها الثقافي،رحلة بسيطة إلى ذاكرة الماضي تظهر لنا مشاهد "القمع البيروتي" لكتاب "نقد الفكر الديني" للفيلسوف السوري صادق جلال العظم عام 1969 وفي الفترة نفسها منعت كتب المفكر الليبي صادق النهيوم وفي عام 1993 منع كتاب الشاعر والروائي عبده وازن "حديقة الحواس" وغيرها وغيرها من الإصدارات،وكلها بإيعاز من السلطات الدينية وتنفيذ السلطات العسكرية،فالرقابة في بيروت-لبنان في أيدي العسكريتاريا،وشروط المصادرة تخضع أيضاً،ككل شيء في لبنان، للتوازن الطائفي ورغبات وأهواء رجال الدين والسياسيين.
دين،سياسة،عسكر:ثلاثة موانع تقف في وجه النشر والكتاب في لبنان-بيروت،رقابة دينية جافة جامدة وأخرى سياسية "مطوئفة وممذهبة" ورقابة عسكرية "جاهلة" مستعملةً صيغة الأمر وهذه الصيغة اللغوية تتناقض تماماً مع الثقافة والأدب والفكر..ومع بيروت كطابع عام.
ومن هنا على الحركة الثقافية اللبنانية والعربية حتى، أن تسعى جاهدةً لـ"تمدين" الرقابة كمرحلة أولى، لأن بيروت آخر فسحة حرية لهم وإن إنتهت،إنتهى كل شيء.على أمل أن تلغى لاحقاً الرقابة نهائياً،لتبقى-لتصير بيروت مدينة النشر الحر!

3- مدينة الفنون:
"أنتم اللبنانيين لا تدركون كنه مدينتكم،ولا تعرفون قيمتها لأنكم أدمنتم المكان وما عدتم تميزون علاماته الفارقة وما عادت تمسكم روحه المشعة المضطرمة" يقول المسرحي جواد الأسدي ( زاهبي وهبي،بيروت المدينة المستمرة،ص 97).يُعتبر مارون النقاش أول من أدخل المسرح إلى بيروت في أواسط القرن التاسع عشر حين إقتبس مسرحية "البخيل" لمولير وعرضها في منزله ثم في عام 1853 حصل على فرمان إمبراطوري يجيز له إنشاء مسرح حقيقي بجوار منزله في إحدى ضواحي المدينة،هكذا كانت البداية،لتكر لاحقاً سبحة المسارح والمسرحين من مسرح بيروت الذي أقفل وأعيد إفتتاحه عام 1992 وأقفل بعدها بست سنوات،ومسرح المدينة برئاسة الممثلة نضال الأشقر الذي إتخذ في البداية سينما كليمنصو مقراً له لينتقل لاحقاً إلى شارع الحمرا وقد عرضت علي هذا المسرح المسرحيتان الأخيرتان للكاتب السوري سعدالله ونوس.بالإضافة إلى الأشقر برز إسم "شوشو" و روجيه عساف وريمون جبارة وبول شاوول ويحيى جابر ورفيق علي أحمد،زد على ذلك مسرحيات الرحابنة وفي الأخص مسرحيات زياد الرحباني الساخرة.
ينقل زاهي وهبي عن المخرج المصري المسرحي حسن جربتلي دهشته من حيوية بيروت وعن حجم الصدى الذي لاقاه عرض مسرحيته "غزير الليل" فيها ومن تعدد القراءات لعرضه وأنه لم يحظ بتجاوب مماثل حتى في القاهرة،إلا أن هذا الجو المسرحي الثقافي تعكره مرة أخرى الرقابة العسكرية حيث قامت في الصيف الماضي بمنع عرض مسرحية"لكم تمنت نانسي أن يكون كل ذلك كذبة نيسان" لربيع مروه على إعتبار أن هذه المسرحية "قد تثير النعرات الفئوية،وتذكر بأجواء الحرب وتسمي الأشياء بأسمائها"،وكأن المطلوب من الحياة الفنية اللبنانية أن تبقى خرساء!وإذا أرادت أن تتكلم فعليها بلغة الجسد،فأن "تسمي الأشياء بأسمائها" لفضحها وكشفها أمام الرأي العام هو عار..وإتهام!؟
الحياة المسرحية اللبنانية تمر في غيبوبة،تستفيق أحياناً على تجارب فردية محدودة،وقد يكون إفتتاح جواد الأسدي لـ"مسرح بابل" في شارع الحمرا،وعرضه لمسرحيته "نساء السكسوفون"،وعودة رفيق علي أحمد ومسرح المدينة وبروز أصوات مسرحية جديدة بداية إنطلاقة المسرحية البيروتية.
ويعتبر الإنتاج السينمائي اللبناني ضئيل جداً لا بل منعدم.. لولا برهان علوية الغائب الذي عاد مخرج أفلام "رسالة من زمن الحرب" و "رسالة من زمن المنفى" و"إليك أينما تكون" و "بيروت اللقاء" وأخيراً فيله الجديد "خلص"،وأفلام فيليب عرقتنجي "البوسطة" و "تحت القصف"،وتجربة المخرجة نادين لبكي المبهرة عالمياً "سكر بنات".فالسينما العربية لها أم أخرى هي مصر،حتى هذه الأخيرة أفادت من الطبيعة والجغرافيا اللبنانية،لإخراج أفلام كاملة في بيروت والجبل وذلك قبل إندلاع "حرب لبنان".
لا يمكننا التحدث عن الفنون وبيروت وننسى حنظلة أو الإسم المرادف له الشهيد الفلسطيني ناجي العلي الذي رأى في بيروت شابة شقراء جميلة بعينين واسعتين،بيروت التي قدم لها حنظلة في إحدى الرسومات وردة إعتذار ومحبة فلسطينية،بيروت التي أخترقها الصاروخ الإسرائيلي ودمرها،بيروت التي طردت المحتل وبكت على النكبة وحضنت الفلسطينيين وغدرها العرب،وضاعت قضيتها!
ΙΙ - الوجه القبيح لبيروت:
وجهان لبيروت،الأول أشرنا إليه سابقاً "بيروت،أدب وفن"،ووجهٌ آخر"بيروت مدينة الدم وسوق البغاء"،بيروت ليست قديسة،بيروت هي بيروت..هي مدينة عادية جداً،لا بل أكثر من عادية،لأنها تحب وتكره،تقتل وتزني!
1- مدينة الدم:
مدينة الدم،المدينة الحمراء،الجنازة الكبرى،مدينة الموت المستمر..تعددت الأسماء والمدينة واحدة.
لم تبدأ مسيرة الدم "بحفلة" الإعدام التي قام بها جمال باشا في 16 أيار 1916 وقتل فيها عدد من رجال الصحافة أمثال فاضل سعيد عقل وعبد الغني العريسي في ساحة الشهداء،ولم تنته بإنتحار "حلاق بيروت" خليل زوين بسبب طرده من محله-مصدر رزقه الوحيد،لأن دكانه الصغير-المتواضع بدأ يزعج ويخنق البنايات الشاهقة.إنها مسيرة طويلة،منذ ذلك الزلزال الذي ضربها لأول مرة،حتى قبل ذلك،ربما! هي مدينة تعشق القتل،تقتل القريب كما الغريب وما بينهما.الموت في بيروت قصة طويلة لا تنتهي ولا تبدأ من حيث سنبدأ من إغتيال أنطون سعادة (إعدام) عام 1949 إلى إغتيال نسيب المتني عام 1950 ولاحقاً مؤسس جريدة الحياة كامل مروة عام 1966 وإدوار صعب عام 1976،وبشير الجميل عام 1982 وحسين مروة عام 1987.. ورنيه معوض وإيلي حبيقة ورفيق الحريري وباسل فليحان،سمير قصير،جورج حاوي،جبران تويني،بيار الجميل،وليد عيدو،أنطوان غانم وفرنسوا الحاج:لبنانياً،وفي عام 1972 إغتيل الروائي الفلسطيني غسان كنفاني بعد تفخيخ سيارته وفي العام الذي تلاه إغتيل أبو يوسف النجار وكمال عدوان والشاعر كمال ناصر على أيدي فرقة كوموندس إسرائيلية..قصة كاتبتها الوحيدة بيروت،وأبطالها هم سكانها وضيوفها،فلا نعرف نهايتها أين؟ وكيف؟
التعداد لم ينته بعد وهو مجتزء حتى ومختصر..300000 قتيل سجل في دفاتر الحرب الأهلية نتيجة لصراعات الدول الكبرى والطوائف وفي الحرب ضد العدو الإسرائيلي قتل الآلاف ليسكنوا المقابر وبيوت الرخام،في حروب المخيمات والقتل العامودي قتل أكثر 30000 ألف فلسطيني ولبناني..رواية القتل المستمر في بيروت مركبة من مئات ألاف الأسماء التي لا تعد ولا تحصى،وآلاف الأحداث تحت ما يسمى "مجازر"!
2- سوق للبغاء:
كان في بيروت وتحديداً في شارع المتنبي "حي البغاء" مشرعاً ومراقباً من قبل السلطة اللبنانية ومستمدة فكرته من نموذج فرنسي،ولكنه توقف عن العمل مع بداية الحرب الأهلية عام 1975 ودمر خلال أحداثها عام 1983،كان الجنس مشرعاً حينها ولكنه كان محصوراً ومحدداً في مكان واحد ومعروف،أما اليوم فتحولت بيروت كلها إلى سوق بغاء،فأصبح السائح العربي (الخليجي تحديداً) يقصد لبنان فقط للسياحة الجسدية(!)فيطغى الجنس على الكتاب.كان لبنان في ما مضى مشهوراً بالثقافة والكتب،أما اليوم فبالجنس،صحيح أن الجنس ثقافة إجتماعية أيضاً،لكن عندما تطبع مدينة بكاملها،بشعبها،ومجتمعها،وأحيائها بصورة الجنس،يصبح الجنس عاهة إجتماعية،وعندما تصبح بيروت أو لبنان مصدراً لتخريج-تصدير العاهرات إلى الخارج،كشبكة الدعارة اللبنانية التي ألقي القبض عليها في فرنسا،تصبح الأمور غير مقبولة ومخزية.
أحياء بيروت مصبوغة بالجنس،وبيروت مدينة للجنس والدم،بيروت باعت الكتاب وتركته في أروقة الماضي،من أجل رغبة بشرية،هما رغبتان في الحقيقة،القتل والجنس!

ΙΙΙ- زوبعة أدونيس بين الواقع والإفتراء!
"هنا سأجرؤ على التصريح بأن هاجس الإبداع الحضاري بدأ يختفي في بيروت،أو يتراجع،منذ ظهور الأديان الوحدانية.ويؤكد لنا التاريخ أن بيروت لم تنتج،في ظل الوحدانية،ما يضاهي إنتاجها في المراحل التي سبقت هذه الوحدانية لا في التشريع،ولا في السياسة ولا في الفن،بمختلف تجلياته"..أدونيس في محاضرة "بيروت اليوم أهي مدينة حقاً أم أنها مجرد إسم تاريخي؟"
حينما نتحدث عن أدونيس ومدينة بيروت فنحن نتحدث عن أم وإبنها،فالولادة الشعرية للفتى القادم من سوريا كانت في بيروت،وفيها قضى معظم حياته وبنى مجده من حجارة مجدها قبل أن يرحل إلى باريس،فما معنى أن ينقد الإبن أمه؟ وهل هذا نقد أم تدمير؟
لا شك أن محاضرة أدونيس في مسرح المدينة،قاسية في حق بيروت وتاريخها وإن كانت الأفكار المطروحة تعبر تعبيراً حقيقياً عن واقع الحال،لكن مع ذلك يبقى أن بيروت هي بيروت،مدينة الكتاب والأدب والفن وكل إنتاج جميل،حتى لو كان مجتمعها مجتمعاً متفككاً،متنابذاً متباعداً،فهو أي أدونيس،يتسأل "هل بيروت اليوم،هي بيروت واحدة؟"،بيروت ليست واحدة،بل متعددة،لكن بيروت كمدينة ليست كباقي المدن،فهي لا تقاس بسكانها ومجتمعها لأنهم كما أشرت سابقاً غرباء وراحلون،بل تقاس بإنتاجها و أدونيس-الشاعر إحدى أبرز هذه الإنتاجات الأدبية المميزة،ولو أن ما إدعاه الشاعر السوري-اللبناني-الفرنسي صحيح لما كان يحق له أن يكون اليوم الشاعر العالمي أدونيس،المرشح الدائم لجائزة نوبل للآداب،الذي ولدته بيروت!
إذاً بيروت في مكان آخر،وهي عكس ما صورها أدونيس،على الصعيد الإبداعي أتحدث،إلا أنه أصاب في حديثه عن العمران والمجتمع والناس والسياسة والإقتصاد والطوائف،فصحيح أن شارعي الحمرا والأشرفية يختلفان تماماً عن حي السلم والشياح وصحيح أن الجو والأرض والبحر يقبعون في التلوث وصحيح أن السياسة اللبنانية هي اللاسياسة وصحيح أن الطوائف هي طوائف موت وإنعزالية،وصحيح أن بيروت هي أكثر من بيروت واحدة وأكثر من مجتمع بقيم مختلفة.ولكن بيروت شيء آخر،لن أدعي أن هذا التنوع هو ما يرسم الصورة الفسيفسائية الجميلة لبيروت،لأن ذلك محض هراء وإدعاء كاذب.هذا التناقض هو الذي أودى بشوارع المدينة إلى اللهاث خلف الدمار،وهو نفسه الذي جعل من "أرقى مدينة في العالم" (حسب أدونيس) تابوتاً كبيراً للجثث المتفحمة،و كابوساً كبيراً لحلم صغير تلاشى تحت أصوات الرصاص و رعد المدافع!
"زوبعتك" أدونيس واقعية لأن ما أوردته ملموس فعلاً،ولكنها في المقابل إفتراء على "إبداع المدينة" التي أنجبت أمثال "أدونيس" ويوسف الخال والأخطل الصغير وأنسي الحاج وسعيد عقل وخليل حاوي وعباس بيضون،وإحتضنت محمود درويش ونزار قباني ومحمد الماغوط وآخرين..
وروائيين أمثال نجيب محفوظ وعبدالرحمن منيف وتوفيق الحكيم وغسان كنفاني وأمين معلوف والياس خوري وغادة السمان وليلى عسيران وأحلام مستغانمي وجواد صيداوي..إلخ.
وفنانين أمثال الرحابنة،عاصي ومنصور وفيروز والياس وزياد ووديع الصافي،وحليم الرومي،ناجي العلي،ومارسيل خليفة وخالد الهبر،شوشو و ريمون جبارة وروجيه عساف ونضال الأشقر،وماجدة الرومي...
كل هذا الإنتاج الأدبي والفني،وتتهم المدينة بالعقم؟
تناقضها مشابه لتناقض كل المدن، حتى باريس متناقضة بأناقتها وجمالها من جهة وكآبة وفقر ضواحيها من جهة أخرى!"فبيروت لا يمكن أن نراها إذا لم نعشها دوماً،ولا يمكن أن نعيشها أو ندعي ذلك،ما لم نعش وجوهها المتعددة المتداخلة المختلطة المتماثلة المتنافرة لنعرف حينها تمام المعرفة أنها أكثر من مشهد مدينة،أكثر من إسم تاريخي"( زاهبي وهبي،بيروت المدينة المستمرة،ص 268).

بيروت لا تنصع إلا الإبداع:
بيروت،إذاً،حاضنة أدبية وفنية،بيروت شعراً كانت وستبقى ساحةً ومنبراً،قد تكون أهمية المدينة الشاعرة قد خفتت فعلاً عما كانت عليه قبيل الحرب الأهلية،وهذا صحيح،لكن بإستطاعة الشعر أن يعود وأن تعود المدينة،فالشعر-والعرب من بعده-هو التائه في الحالة هذه وليست بيروت.
و رواية بيروت لا تنتهي مع إبتداع الجمال،وتناقضها وتضاربها في الروايات والقصص التي تناولتها ما هو إلا دليل على روعتها وتألقها بين الأخريات من المدن العربية من ناحية إنتاج الأفكار والمواضيع،وحرب بيروت القاسية ولدت تاريخاً لمدينة بلا تاريخ فعلي سيبني لاحقاً،ربما، بيروت أكثر إبداعاً وأجمل خلقاً.
أما أداء بيروت المسرحي فهو شحيح فعلاً،وأداؤها الفني بدأ ينحرف بإتجاه آخر غير الإتجاه المرجو من كل فن،ولكن عودة بيروت ليست مستحيلة،مع عودة الفنانين الحقيقيين البعيدين عن الإبتذال.فنٌ يحمل معنىً وهدفاً،أكان مسرحاً أو أغنيةً أو لوحة أو فيلماً سينمائياً.
والنظر إلى بيروت على أنها مجرد مدينة للدم أو سوقاً للبغاء،يزلزل كيان المدينة وتاريخها،ولكنها اليوم في نظر الآخرين كذلك،وما حديثنا عن رذائل المدينة إلا محاولة بسيطة لإخراجها من سواد الزمن المصنوع،بحكم المنطق،بأيادٍ بشرية،فبيروت لا تصنع إلا الإبداع،والإبداع يحتاج إلى الحرية ليعلن عن نفسه،وهي مدينة للحرية،ولا حرية بلا نقد،فهو-أي النقد- أحد فصول الحرية.
ومن هنا إنطلق أدونيس في نقده للمدينة،حتى لو خالفنا أو وافقنا على ما قاله في محاضرته الزوبعة.بيروت اليوم فعلاً خارج بيروت التي نتمنى،عمراناً ومجتمعاً،ولكنها إبداعياً ما تزال متألقة وستبقى،وهذا مبدئي في سيرة المدينة،لأنها وكما ذكرت سابقاً لا تنتج إلا الإبداع،وما تبقى هو صنيعة شيء آخر،و ربما مدينة أخرى،فأعداء بيروت كثر!
بيروت ليست أسطورة،لأن الأسطورة خيال،بل هي واقع ملموس وحقيقي،تبنى عليه حضارة ثقافية بكاملها،لكن بيروت اليوم تطرح أسئلة و يُطرح عليها:ما هو مستقبل الكتاب والفن في بيروت؟ وما مصير المدينة وثقافتها مع إنتشار ثقافة أخرى في العالم،ثقافة الإستهلاك؟

المصادر والمراجع التي أستخدمت في هذا الموضوع:

1- سمير قصير،تاريخ بيروت،دار النهار للنشر،الطبعة الأولى 2006.
2- زاهي وهبي،بيروت المدينة المستمرة،الدار العربية للعلوم ناشرون،الطبعة الأولى2008.
3- خبيز،بلال،بيروت:المجد العاقر والحرب والولود،موقع الأوان الإلكترونيhttp://www.alawan.com
4- هاني نعيم،أرا كيشيشيان،شاهد على ست حروب،جريدة الأخبار،العدد 410.
5- هاني نعيم،شارع الحمرا"داون تاون" مانيلا،جريدة الأخبار،العدد 384.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن