الخوذة الحديدية

صالح جبار
aboehab2006@yahoo.com

2008 / 2 / 14


في سجال ألأيام , مضغت ذكرياتي الهشة ... بعيدا في أقاصي الجنوب , تغمرني الملابس العسكرية بعنوة .. وتمطي صهوة رأسي , خوذة حديدية ,ثقلها يدق عنقي , لكن لامناص من ذلك ...

في السواتر الترابية , تنام أحلى سنيني , تلوك أوحال الشتاء , وغبار الصيف القائظ , لايوحي سوى بالرتابة , والخوف المستمر ..والضابط (المصلاوي )الذي همه إصدار الأوامر العسكرية المملة , ببدلته (المرقطة ) .. يشعرني بالسقم يسري في بدني المترع بالأحلام الممتدة دون نهايات ...

نمت البارحة متكىءعلى صندوق العتاد ..
: هل حلمت أم لا..؟؟!!
: هل غفوت في رقدة أبدية .. توقا للهروب ..؟؟!!

حاصرتني زوابع الذهول , متى تنتهي المأساة ... ؟؟!! ليس سوى صفير الريح يمضي , بين الملاجىء المتناثرة , أستشعر سخونة اللهيب يلفح طيات ملابسي المتسخة , والخوذة المتسمرة فوق أصداغي , الموجوعة من خطوط
الملح المنتشرة , كخرائط على جسدي النحيل ...

لازالت ملامح ألمرآة (السومرية ) تحصد مخيلتي , وومض عينيها , مزروع في قلبي يأبى الرحيل , رغم بؤس المكان ..

تحسست البندقية , بحرارتها اللاذعة , أشعلت وجيب الخوف ألمتأصل , تحت أضلاعي , ورغم عدم التماسك , فقد كنت أذوي مثل شمعة يأكل جوفها اللهب ..




أخبرني (العريف ) بواجب المضي للساتر الأول .. ( هناك سألقي حتفي , ولايعد لي أي مبرر للحلم .. سأكتشف , مثابة أخرى , تنقلني لعالم جديد ..)

أخذتني التداعيات , لصور حزينة .. جعلت الدمع المتحجر في عيني , ينهمر بصمت , والوجوم ينحت أنينه ..

عند المساء , تحركت الجحافل , نحو الهدف , وأتقدت ألأفاق بنيران , وحمم متواصلة , فقد أزفت ألآزفة ,وأخذت السريا تتقدم الواحدة تلو أخرى ...

سكت الضابط (المصلاوي ) , وقد أمتقع لونه, وعينيه الزائغتين , تدوران في محجريهما .. تعكس اضطرابا يفضح التلاشي المحيط بنا ..

والخوذة الحديدية ممسكة برأسي الثقيل , من الوسواس , والاجتراءت,المضنية ..

صمتت أرادتنا , وتحركت شظايا القنابل , بهلع يزرع الجنون .. ودوي
ألانفجارات , سيد الموقف , أنه تعبير همجي , عن ألإنسانية المستباحة في
هذا الظلام المتقطع , من نيران المدافع ..

لم أعد أكره الضابط (المصلاوي ) كنا غرباء , في محنة لاخيار لنا فيها , وتمنيت لو أنه تخلى عن بدلته (المرقطة ) ..!!

كانت المرأة (السومرية ) تنتظرني في الأجازات , عند أقصى الشارع البعيد
للطرف ألاخرمن المدينة ..


وحتى أصل أليها , يجب أن أعبر الجسر , العتيد الرابض فوق النهر الممتد , وسط ألاحياء الفقيرة , وهو يشدها بقوة , كمن يخاف عليها من التقسيم ...

أتطلع لقامتها التي تشبه , لاعبات كرة السلة , وحينما نلتقي ..يعتريني الفرح المشبوب , وأبدو مثل طفل , لا يأبه للنظرات المزدرية ..
يكفي رؤية شهقة , النخل تتزاحم وسط عينيها .. وأدرك عالم يفصح عن
البراءة والتوق للحنان ..

هز المكان صوت قنبلة , انفجرت قربنا , رائحة البارود , تشبه رائحة العتمة
تقود لدهليز التناثر بين آلاف المجرات , تنام مع سدم بلا بصيص أمل ..
تمقتني الحياة , وأود لحظة سلام , تعيدني لمنبع الصفو , لعلي أحظى بلقاء
برعم أمتنان الهدوء الذي يعيد الطمأنينة...

يتبرم الضابط , ويصدر أصواتا مكتومة , لشتائم ليس لها صلة , بالأوامر العسكرية , التي أدمن عليها ..

ضحكت في سري , بدا لي لأول مرة مألوفا , وهو بهذه الحال , كالمغني الخجول يفسد ألحانه من فرط المعاناة , بحثا عن شيء يخفي ارتباكه..
بقي صعق ألانفلاقات , يطيح بالسكينة , ويمتص أمل البقاء أحياء ..

أختبئت في الشق المحفور , بعناية للجهة المقابلة ..
لم أعد أسمع صوت الضابط , الذي أنتابته نوبة التبرم والامتعاض الشديد , كان لايزال واقفا , رغم صفير الانفجارات .. ولم يحاول ألاختباء خلف السواتر , المتناثرة في الفضاء الموحش ..

عند أخرموعد للإجازة الدورية , أخبرتني (سومريتي ) ,عن شخص تقدم لخطبتها , وليس أمامها سوى , الموافقة عليه ..

أنه (مصري ) سيبقى معها , ولن يذهب لجبهات القتال .. ضحكت طويلا ,
وأبديت عدم الاكتراث , أرادت أن تخبرني المزيد , تركتها ومضيت .. لأن
ألأمر ما عاد يهمني ..

فكرت , لابد أنها تعيش , في أحضان الوهم , تتمرى فوق خاصرة الآمال الزائفة ..

انتشرت ريح الموت في الأرجاء , وأنقطع صراخ الضابط , رفعت رأسي ,
المؤطر بالخوذة الحديدية , لمحته ممدا أسفل الساتر القريب , وقد ذبحته
شظية , بعد حز رقبته ...

هرعت أليه , كان يشخب دما , وعيناه جاحظتان , بشكل مخيف .. حاولت
سحبه إلى الشق الترابي , لكن صفعة قوية , لطمتني , رمتني بعيدا عنه ..

في قافلة الفرح , ينزوي اليتامى , بين الموائد بحثا , عن لقمة تسد رمق الجوع ... وفي أعراس الوهم , تنتشي الملذات الجوفاء , من تخمة التواصل
المحموم ..

بحثت عن طهر , العفة في أسواق النزق .. تجارة بائرة , لكل من ينادي نصيب , من الفسق , المتعرش في الزوايا ..

رفعت رأسي , كانت الخوذة , ملقاة بعيدا عني , زحفت نحوها , لأعيدها إلى
مكانها ... تحسستها , لمحت شظية صغيرة , استقرت من جهة الخلف , بين
الغلاف الخارجي , والنسيج الموضوع داخلها ...

ترأت لي ( السومرية ) تبكي , فرميت الخوذة , ومضيت نحو الشق الترابي ,
فيما بقيت جثة الضابط (المصلاوي ) في العراء ...



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن