غربال الذاكرة : برتولد بريخت

فيصل الياسري

2008 / 1 / 22


وصلت برلين لاول مرة عام 1959 في الذكرى السنوية الثالثة لوفاة برتولد بريخت الكاتب الاكثر تاثيرا على المسرح العالمي خلال القرن العشرين ! والاكثر اثارة للجدل والاختلاف حتى في فهم مفاهيمه المسرحية التي ما زال بعضها - مثل التغريب والمسرح الملحمي - يكتنفه الغموض عند بعض العاملين في المسرح ، ومما زاد من هذا الغموض ذلك الارباك الذي سببته تلك الشروحات القاصرة التي تطوع بعرضها بعض من حاولوا التظاهر بانهم يفهمون بريحت ويحبونه !!! بالاضافة الى التشويه المقصود الذي تعرض له مسرح بريخت بسبب العداء السياسي له من قبل الاوساط المهيمنة على الفكر والاعلام في الغرب لتبرير منع عرض مسرحياته في المدن الغربي لمواقفه الفكرية والايدولوجية اليسارية !! فحرموا المشاهدين طوال عشرات السنين من اعماله العظيمة التي عادوا الان وبعد خمسين سنة على وفاته الى الاعتراف بها وتقديمها على جميع مسارح العالم ( كتب بريخت 48 مسرحية و1334 قصيدة وعشرات الكتب والبحوث الفكرية ) والان حتى اؤلئك الذين كانوا يبخسونه حقه يتحدثون عنه ككاتب عظيم ، بما في ذلك السياسيين ، وها هي مثلا المستشارة الالمانية ميركل تتحدث رسميا عن بريخت بمناسبة الذكرى الخمسين لوفاته فتقول ( كان بريخت رجلا يساريا مؤمنا بانتمائه الى اليسار.. وكانت اعماله تدرس بالمدارس .. كان مفكرا حرا , وهذا ما جعله رجلا مهما )
عندما توفي بريخت في 14 /8/1956 كنت في فيينا ، فذهبنا ، يوسف العاني وانا ، الى مسرح سكالا ، المسرح الوحيد الذي كان يعرض في فيينا اعمال بريخت ، وانبهرنا يومها بعرض مسرحية( حياة غاليلي ) لبريخت من اداء واخراج الفنان المبدع فولفغانغ هاينس الذي كان قد ترك دراسة الدين والاهوت وعمره 17 سنة ليمارس التمثيل ، فيصبح من عمالقة المسرح الالماني مخرجا وممثلا ، كما مثلا مبكرا في السينما ( مثلا في فيلم نوسفيراتو / من اوائل افلام الرعب في تاريخ السينما- 1921) وكان هاينس قد تولى من 1948 الى 1956 ادارة مسرح سكالا في فيينا فحرص - وكان مفكرا شيوعيا واعيا - على تقديم مختارات من افضل المسرحيات العالمية لبريخت وغيره مما كانت المسارح الاخرى تحجم عن تقديمها ، ثم انتقل بعد غلق مسرح سكالا لاسباب سياسية ، الى برلين حيث عمل مخرجا وممثلا قديرا ومديرا لعدد من المسارح الالمانية وقد زرته عام 1962 وهوعميد المعهد العالي للمسرح في برلين فحدثني عن المفاهيم الجديدة في تعليم التمثيل ، وحضرت معه عدة تمارين على المسرح وهو يؤدي الملك ليير او شارلوك او ناتان الحكيم ( توفي فولفغانغ هاينس في 30/11/1984 )..
كانت اذن زيارتي الاولى لمسرح بريخت المعروف باسم ( برلينرانزامبل ) عام 1959 في الذكرى السنوية الاولى لوفاته , وشاءت الصدف ان اتعرف على المخرج الالماني الكبير لوتار بيلاغ الذي تبرع لمساعدتي عندما وجدني كثير الالحاح , دون جدوى , للحصول على تذكرة دخول لتلك الليلة لحضور مسرحية ( الام كوراج – شجاعة) فتطوع- بعد ان تعرف علي وعلى مشكلتي - بادخالي لاجلس على احد المقاعد المخصصة للفرقة !! فكان على ان امر من مدخل الممثلين ، فاصطحبني الى مقهي خلف الكواليس خاص بالعاملين ، وهناك تعرفت على الشهيرة هيلينا فايغل ، زوجة بريحت منذ عام 1929 ، والتي جسدت الكثير من الادوار النسائية التي لا تنسى ، وكنا سنراها في تلك الليلة بدور الام شجاعة ، وحيث ان العرض لم يبدء بعد اجلسني بيلاغ الى طاولة هيلينا فايغل ، وسالتني فيما اذا كنا في العراق نعرف بريخت ، فاندهشت عندما اعلمتها بانني قمت باول ترجمة لبريخت الى العربية ، كتيب صغير صدر في بغداد عام 1958 تحت عنوان (التجربة) ضم قصصا واشعار واغاني لبريخت ، وبعد هذا الخبر الموجز هتفت هلينا فايغل بفتاة كانت تقف بالدور وطلبت منها ان تضيف الى طلباتهم كوب شاي (لضيفنا من بغداد ) .. وعرفت فيما بعد ان تلك الفتاة التي ناولتني الشاي هي الممثلة برباره بيرغ ، ابنة بريخت ( وهي الان وريثته الوحيدة بعد وفاة امها هلينا فايغل في 6/5/1971)
كان لقاء المصادفة ذاك بداية علاقة طيبة لي مع عائلة بريخت الخاصة ومع فرقته المسرحية ، حيث تعرفت فيما بعد على الممثل النابغة ايكارد شال ( توفي في 3-9-2005 ) زوج ابنة بريخت الممثلة بربارة بيرغ ، حين جمعتني به سهرة تلفزيونية من اخراج لوتار بيلاغ الذي كان من من دواعي سروري ان ارافقه في الستينات في اعمال كثيرة لصالح التلفزيون الالماني بصفتي مخرجا منفذا ، ومن ثم بصفتي مخرجا مشاركا في السهرة التلفزيونية ( فتاة بدون مهر) من تأليف استروفسكي ! وكان للمخرج بيلاغ ( رئيس اتحاد المبدعين السينمائيين والتلفزيونين انذاك ) الفضل الاكبر في تعريفي على الوسط الفني الالماني في برلين ، ومشاركتي في اخراج اعمال تلفزيونية مهمة مثل ( الرجل الرابع -1962) لسيمونوف و(هواية الالعاب الزجاجية 1964 ) لتنسي ويليمز ... وعندما اخرجت اول فيلم لي للتلفزيون الالماني بعنوان ( حكاية عبدالله -1963 ) ساعدني في اختيار خيرة الممثلين واقنع عددا من المخرجين بالتمثيل معي وهو منهم !!
وعندما جاء عوني كرومي الى برلين ليدرس المسرح ، ادخلته وراء كواليس مسرح بريخت وعرفته على لوثر بيلاغ فارتبط معه بصداقة امتدت الى وفاة بيلاغ في 10-10-2001 وقد رتب له كرومي زيارة الى بغداد في الثمانينات حيث قام بيلاغ بالقاء محاضرات عن المسرح في كلية الفنون الجميلة واجراء تمارين مشتركة مع عوني للطلبة عن اسلوب بريحت المتميز ..!!
لقد التقيت بالكثير من المسرحيين العرب المهتمين بمسرح بريخت ، يتحدثون عن منهجه ورؤاه المسرحية تأليفا واخراجا واداء، بحماس وحب واحيانا بفهم سطحي !! ولكنني لم اجد بينهم من هو ابرع من عوني كرومي في فهمه ، وقدرته على نقل معلوماته عن بريخت للاخرين بوضوح وصواب !! .. لقد كان عوني كرومي ذا منهج علمي جمالي رائع في تدريس المسرح وفي الاخراج وفي قيادة الممثل وفي خلق تلك العلاقة البريختية بين الممثلين والجمهور ! لقد اسعدني دائما حضور تمارين عوني كرومي المسرحية ، لما يشيعه من جو الفرح والمهنية في العمل ، وكنت احيانا احاول ان احضر حتى دروسه في الدورات التي قادها في الدوحة او القاهرة او في بغداد ، وكان من باب الاحترام لي يشعر بالخجل عندما يجدني احيانا اجلس بين طلبته استمع اليه !!
اراد برتولد بريخت ان يكون المسرح منبراُ للحوار يثير خيال المتفرج لا منصة للاوهام . فاوجد مفهومين : التغريب ويقصد به بايجاز تغريب الأحداث اليومية العادية, أي جعلها غريبة ومثيرة للدهشة, وباعثة على التأمل و التفكير ، ومفهوم المسرح الملحمي ، كمقابل للمسرح الدرامي المعتاد أو الآرسطي حيث يكتفي الجمهور بدور المتابع السلبي. وسعى من خلال هذا اللون المسرحي أن يخلق جمهوراً يستطيع التفاعل مع الأحداث ليتحرر من دوره كمشاهد سلبي وكان يتوخى اثارة الدهشة عند المتلقي ، وان يمارس عملية النقد الذهني لما يرى امامه على المسرح ، وان يفكر اكثر مما ينفعل ، ولهذا الغرض كان يلجأ الى اساليب مختلفة منها تفكيك المشهد ، وجعل الممثلين يخرجون من ادوارهم بتأدية اغنية او مخاطبة الجمهور ، او الاتيان بما يؤكد انهم ممثلون يحرضون المشاهدين على التفكير بما يرون لفهم الواقع الاجتماعي والتاريخي ، متأثرا بافكار ماركس وهيجل ، وكان بريخت يرى ان من وظيفة المسرح ان يحقق التسلية والمتعة والفائدة بالرغم من ان السياسة طبعت معظم أعمال بريخت المسرحية والأدبية ، وتجسد مسيرته الفكرية تلاطم الاحداث التي شهدها النصف الأول من القرن العشرين في أوروبا. ففي ظل الفساد السياسي وغياب الوعي الشعبي في ألمانيا أيام الحكم النازي بلور بريخت فكرته عن المسرح الملحمي التي امتدت حتى الى دور الممثل على خشبة المسرح، محاولا تغير طابع وظيفة الممثل من مؤدٍ متقمص لشخصيات إلى عنصر إيجابي في المسرحية، حيث كان بريخت يدعو ممثليه إلى جعل قدر من المسافة بينهم وبين النصوص واتخاذ مواقف نقدية منها أثناء أداءها وليس فقط تكرارها بشكل ميكانيكي.
وتلعب الاغنية دورا مهما في مسرحيات بريخت ، فهي عنصر من عناصر التغريب الذي كثيرا ما يساء فهمه ، لما فيه من تناقض ظاهري ، فالتغريب من جهة يروم عزل المتلقي عن الفعل الدرامي للمسرحية، ثم يروم دمجه فعلياً في علاقة توحد عاطفي مع شخوص المسرحية ويفسر ذلك احد المهتمين حاليا بمسرح بريخت ، ستيفن هيث، بقوله ( التغريب هو جعل المتلقي جزءاً من عملية التحول مما هو ذهني الي ما هو حقيقي، من الإيهام الي الحقيقة الموضوعية،)
وفي اداء الاغاني خارج المسرحيات لم يتخل المغنون عن المفاهيم البرختية في العرض ، ومنها تغيير الأنماط التقليدية للاداء والتلقي، لدفع المتلقي الي التفاعل مع ما يسمع من دون أن يفقد المتعة الفنية من العرض ، ويعمد الكثير من المغنين في العالم الى تقديم الكثير من اغاني بريخت لما لها دلالات ومعاني وقيم قائمة بذاتها ، في حفلات غنائية امام الجمهور ، وهنالك فرق موسيقية في المانيا تقدم فقط اغاني بريخت ، من ذلك فرقة المغنية الممثلة فيرا اولشليغل التي رافقتها في حفلاتها التي اقامتها في بداية السبعينات في بيروت ودمشق وقمت بترجمة فورية للاغاني وزعت في كراس على الجمهور لمتابعة الغناء امامهم على المسرح ( وقد اضفت له فيما بعد ترجمات اخرى ليصدر في كتاب عن دار الجيل في دمشق تحت عنوان اغاني واشعار لبريخت ) .. وهذه مقاطع مختارة من ترجماتي تلك لاشعار بريخت المغناة :
سيدي الجنرال
دبابتك متينة وفولاذية
مدفعها ضخم ومدمر
ولكن فيها عيب واحد
انها بحاجة الى انسان

ويقول بريخت في قصيدة بعنوان خبز الشعب :
العدالة هي خبز الشعب .‏
أحياناً يكون وفيراً ، وأحياناً شحيحاً .‏
أحياناً يكون طيب المذاق ، وأحياناً سيئ المذاق .‏
حين يشح الخبز ، يكون الجوع .‏
وحين يسوء الخبز ، يكون السخط .‏
ابعدوا العدالة السيئة‏
المخبوزة دون حب ، المعجونة دون معرفة !‏
العدالة الممجوجة التي تأتي بعد فوات الأوان !‏
مثلما الخبز اليومي ضروري ‏
كذا العدالة اليومية ‏
ضرورية ومرارا يومياً .‏
من الصباح إلى المساء ، في العمل ، وفي المتعة .‏
في الأوقات الصعبة والأوقات السعيدة
يطلب الشعب خبز العدالة اليومي ‏
الوفير, المشبع .‏
ولما كان خبز العدالة بكل هذه الاهمية ‏
فمن إذن ، يا أصدقاء ، سيخبزه ؟
لا بد أن يخبز الشعب ‏خبز العدالة .‏ وفيراً ، ومشبعاً ، ويومياً .‏
اسئلة عامل يقرأ
من بنى طيبة ذات البوابات السبع ؟
في الكتب ستجد أسماء الملوك.
فهل حمل الملوك كتل الحجارة ؟
وبابل، التي دمّرت مرات عديدة
من عمرها كل مرة ؟
في ليما المتلألئة بالذهب
اين كان يعيش البناؤون ؟
و سور الصين العظيم
الى أين ذهب البناة ليلة اكتماله ؟
روما العظيمة مليئة بأقواس النصر.
من شيدها ؟
وعلى مَ انتصر القياصرة ؟
ألم يكن في بيزنطة، التي لهجت بثنائها الأغنيات
سوى القصور لسكانها ؟
حتى في أطلنطا الأسطورية
ليلة ابتلعها المحيط
كان الغارقون ما زالوا ينادون عبيدهم.
الاسكندر الشاب غزا الهند.
هل كان وحده ؟
وقيصر هزم الغال.
ألم يكن بصحبته ولو طباخ ؟
فيليب ملك إسبانيا بكى حين غرقت الأرمادا
الم يبكي احد معه ؟
فريدريك الثاني كسب حرب السنوات السبع.
من كسبها معه ؟
كل صفحة انتصار.
فمن كان يطبخ ثريد المنتصرين ؟
كل عشر سنوات رجل عظيم
من دفع مرتباته ؟
اخبار كثيرة
وأسئلة كثيرة
================================== فيصل الياسري



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن