العولمة والاستقلال الثقافي

محمد باسل سليمان
jehat_st@yahoo.com

2008 / 1 / 7

تحديد مفاهيم:
يعتري العولمة كمصطلح تشوش فكري يستدعي عوامل مساعدة للتوصيف والتفسير والتحديد. وعجائب دلالات هذا المصطلح واتساعها وتعددها وعدم الاتفاق حولها، ربما جعلت وظيفة الاستدعاء مناقضة لما أريد منها خصوصا عندما تكون النتائج قد زادت المفاهيم التباسا والأفكار تعقيدا.
والثقافة كمصطلح ليست أقل صعوبة في تحديد مدلولها المباشر، سيما وأن المدلول التداولي للمصطلح ربما يعود إلى أصل معرفي وليس إلى فصل لغوي.
من هنا يبدو من الأهمية بمكان استهلال تناول الموضوع لتجديد الدلالات الاصطلاحية وتعيين المعاني بالاعتماد على تعريف كل منهما وفق منهج السيميائية الذي يقوم على اللغة من حيث هي رموز وعلامات ذات مدلول له منشأ وتطور ومعاني.

العولمـــة: مصطلح نظام جديد نشأ من بين أحشاء الرأسمالية، ليضع علامة استفهام كبيرة على صحة الفرضية الماركسية – اللينية التي تقول بأن الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية". وانتشر هذا المصطلح، متساوقا مع تعزز مكانة العولمة الاقتصادية بسرعة فاقت شروط تشكل المعنى وتأسيس المرجعية التي يحيل إليها في الواقع.
ومصطلح العولمة لفظ مشحون بعديد من المعاني لأنه لا يزال يبحث له عن مدلول مادي واضح. فهو يعني الآن كل شيء، وربما لا يعني شيئا بعينه. والعولمة في معناها المحسوس لا زالت تحبو في بدايات مراحل تشكلها الأولى، ولا زالت تبحث لنفسها عن معايير ومقومات تحول شروط الليبرالية الاقتصادية الجديدة التي تقوم عليها إلى قيم إنسانية شاملة ترسخها كأيديولوجيا جديدة، برغم أنها تبرر نشوءها بسقوط التاريخ وأيديولوجياته السابقة.
"وفي إطار بحث المصطلح عن معناه أو معانيه يراد الانطلاق من قوانين ثابتة وخيارات اقتصادية تجارية في الأساس، واعتبارها مثالا صالحا لكل زمان ومكان . " أي الانطلاق في تصور مستقبل وتطور البشرية من مسلمات واحدة، جاهزة مستوحاة من النموذج الإنجلوسكسوني رغم اختلاف السياق والمعطيات والظروف الحافلة اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا بشعوب العالم وبلدانه.

"أما أدوات العولمة فصنفان؛ نظرية، ونعني الفكر الذي انبنت عليه. ويقوم هذا الفكر على مبدأين عامين وجوهريين هما: مبدأ انتقاء الحدود، وفيه زعزعة لقناعة أولية أساسية ناضلت من أجلها الشعوب، وحددت على أساسها هويتها وانتماءها في الزمان والمكان.
وثانيا مبدأ نهاية الاختلاف، وهو اغتصاب فكري يمحو الذاتية ويشكك في الخصوصية التي بدونها يصبح الإنسان هنا ضعيفا طيعا، مجرد رقم في معادلة لها من الإتساق والقوة والثبات ما لقوى الطبيعة من جبروت وعظمة ورقة تقبل ولا تناقش، إما لقدميتها أو لعدم قدرة الإنسان على تفسيرها.
أما الأداة العملية المثلى والأنجع للعولمة، فهي الاقتصاد وعولمة التجارة وتهاطل الأموال والاستثمارات في كل انحاء العالم، مصحوبة بوصفة جاهزة وتعريف مجهول (فالمسلمات تعرف نفسها)... وشيئا فشيئا تتضح وظيفة الأداة وتتحدد ملامح الصورة:
- سقوط الاعتبارات الإستراتيجية وهيمنة الطموحات التجارية.
- توسع الاعتقاد بأن الرخاء الاقتصادي يقود حتما إلى التشابه واستقرار النمط الأوحد.
- تنامي الشعور بأن الكون أصبح أخيرا يسكنه العقلاء. والناس يفكرون ويتصرفون بنفس الطريقة ووفق نظرية جديدة في منطقها ومثلى في جوهرها لأنها نتاج تجربة كاملة من تاريخ البشرية...
وجاء في ويكيبيديا (الموسوعة الحرة) الالكترونية، أن العولمة هي "عملية اقتصادية في المقام الأول، ثم سياسية، وتتبع ذلك الجوانب الاجتماعية والثقافية، وهكذا...، وهي عملية تحكم وسيطرة ووضع قوانين وروابط، مع إزاحة أسوار وحواجز محددة بين الدول وبعضها البعض....".

الثقافــة: مصطلح معرفي متعدد الدلالات التي تبدو في بعض الأحيان متعاكسة أو متباينة. وهو ما يجعل فعلها المعرفي معقد، وبسيط أيضا.
وللثقافة في الفكر الغربي الموروث دلالات مرتبطة بزراعة الأرض. ثم استخدمت بعد ذلك، مجازا في تعريف الفلسفة. وفي عصر النهضة أصبحت الكلمة تطلق على الدراسات المتعلقة بالتربية والإبداع.
ومن بين تعريفات الثقافة المدققة فلسفيا، ما ينص على أن الثقافة هي "ذلك المركب المتجانس من الذكريات والتصورات والقيم والرموز والتعبيرات والإبداعات والتطلعات التي تحتفظ بها الجماعة البشرية، تشكل أمة أو ما في معناها، بهويتها الحضارية، في إطار ما تعرفه في تطورات بفعل ديناميتها الداخلية وقابليتها للتواصل والأخذ والعطاء. وبعبارة أخرى، أن الثقافة هي المعبر الأصيل عن الخصوصية التاريخية لأمة من الأمم، عن نظرة هذه الأمة إلى الكون والحياة والموت والإنسان ومهامه وقدراته وحدوده، وما ينبغي أن يعمل وما لا ينبغي أن يأمل".

وكثرة تعريفات "الثقافة" زادت معنى الملفوظ تعقيدا، حتى اختلط بمفاهيم أخرى كالحضارة والمدنية والتقدم، وحشرت في شتى المجالات والسياقات، فتمتعت بمعاني مختلفة، منها الوصفي والتاريخي والاجتماعي والنفسي والوراثي، إلخ...
ووفق ما تشير إليه وثائق منظمة اليونسكو، فإن مصطلح الثقافة ظل ملتبس المعنى برغم تعدده، إلى أن أقرت اليونسكو في مؤتمرها الذي عقدته في المكسيك عام 1982م وكرسته للثقافة، تعريف الثقافة على النحو الآتي: "إن الثقافة بمعناها الواسع يمكن أن ينظر إليها اليوم على أنها جميع السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية التي تميز مجتمعا بعينه، أو فئة اجتماعية بعينها. وهي تشمل الفنون، والآداب، وطرائق الحياة، كما تشمل الحقوق الأساسية للإنسان، ونظم القيم، والتقاليد، والمعتقدات".
وبمعالجة تقارب للدلالات، يمكن القول أن معاني الثقافة المختلفة تتأطر في معنى أنثروبولوجي يحددها على أنها كل فعالية إنسانية ونشاط ذهني أو مادي، مثل: تراكم خبرات، أو صنع أدوات، أو ممارسة تصورات. كما أنها يمكن أن تعني السمات المميزة لأي امة من الأمم في المعارف والقيم وطرائق الإبداع الجمالي والتقني وطرز الحياة ونمط التفكير والسلوك والتعبير، والتطلعات للمثل العليا.
و"الثقافة"، من وجهة نظر فلسفية بمعناها الواسع هي الاكتساب المعرفي، أي الثراء الفكري في مفهوم القرن الثامن عشر الأوروبي. ومعنى ذلك أن الإنسان المثقف هو الإنسان الواسع الاطلاع على المعارف المختلفة، والقادر بالتالي على استخدام العقل وعلى الاكتشاف والإبداع. وهذا يعني من جانب آخر أن الثقافة ليست قوالب معرفية جاهزة، وإنما هي قابلية واقتدار على التفهم والإدراك.
والثقافة إبداع له شروط يجب تحققها، وأول هذه الشروط هو الحرية بمضامينها الإنسانية الواسعة. وأول دعائم قيام الإبداع التسامح، وسنده الاختلاف والتنوع، وسقفه الإنسانية جمعاء. وهذا يقتضي تمتع الثقافة الإنسانية بمقومات تعيق عملية إقصاء أو تهميش ثقافة أي أمة من أمم الإنسانية، وتمنع هيمنة ثقافة بعينها على بعض أو كل الثقافات الأخرى، لأنه بدون ذلك يصعب إدراك جوهر الإنسانية الصافي.

تأسيــس:
"توحيد العالم"- صيحة أطلقتها الرأسمالية منذ عدة قرون، وأملت أن تنجز بتحقيقها نظام العولمة باعتباره التقدم المنشود في تطور الاتصالات التي تجعل الحصول على المعلومات الوفيرة من هذا التقدم أمرا سهلا وسريعا وحقوقيا، يؤسس لنظرية "الحصول على المعلومات والمعرفة كحق من حقوق الإنسان"، ويغير صلة الإنسان بالمكان بصورة جوهرية.
واتسم التطور التدريجي على هذا الصعيد بتحول جذري لمفهوم الزمن أكسبته صفة "العالمية" بعد إلغاء الحدود الجغرافية وانمحاء المسافات. وساعد هذا التحول أيضا على تمتع الخلق والإبداع الإنسانيين القائمين على توظيف المعرفة واستقلال العالم، في الإنتاج، بميزة الإمكانية. وبدا الوعد الإنساني بقيام عالم جديد بدون مشاكل خطيرة وغير ممكنة (كل أمر ممكنا، وأن الحضارة الإنسانية بانتظار تقدم غير مسبوق).

وأخذت ملامح ومستويات التطور في بدايات العقد الأول من القرن الحادي والعشرين تؤشر إلى بعض من مثل ذلك، إلا أنها سلطت الضوء ساطعا على جوانب البشاعة في الوجه الآخر للعولمة. فغدت في الواقع المعاش، سياسيا واقتصاديا وثقافيا نمطا من السيطرة والهيمنة.
ويتحرك بلا قيود، ولا حتى تخطيط بحثا عن الربح ومعاظمته، العولمة تتخذ أشكالا مالية وتكنولوجية في الأساس. وكان ثمن تحقق بدايات انطلاقتها الوثابة تفاقم مشكلة المديونية الخارجية التي يعاني منها هذه الأيام أكثر من 92 بلدا، وتهميش عدد كبير من بلدان العالم في نظام التجارة العالمية، وانتقال رؤوس الأموال من "الجنوب" إلى "الشمال" تحت شكل خدمة الدين الخارجي، وكذلك في خفض أسعار المواد الخام.
في مجال السيطرة التكنولوجية ظهر تقسيم جديد للعمل على الصعيد العالمي، نتج عن تحكم عدد قليل من البلدان بالتكنولوجيات المتقدمة وتوجيهها في خدمة توسيع أسواق ربحها وسيطرتها، وحرمان القسم الأعظم من شعوب العالم من الاستفادة من نتائج البحث العلمي المتقدم وتوظيفها في تطوير الإنتاج ووسائله.
وأما في مجال تكنولوجيات الإعلام فبدت صورة تسلطية العولمة على حقيقتها إلى الحد الذي تفوقت فيه على ما كان عليه حالها إبان الاستعمار ، ولذلك الحد الذي أهلها لأن تصبح أداة فحص دقيقة لواقعية ومزاعمية الأوصاف والسمات التي تطلق على العولمة أو يزعم بأنها تتمتع بها. وقد أدى التطور الكبير الذي شهدته تكنولوجيات هذا القطاع في السنوات الأخيرة إلى توسيع مجال هذه السيطرة وتضييق ميدان تقاسم المعرفة والمعلومات ليس بين "الشمال" و "الجنوب" فحسب، وإنما بين الولايات المتحدة وشركائها أيضا.
ويمكن إجمال مواصفات الوجه الآخر والحقيقي للعولمة كما بدت عليها منذ التأسيس وما تواصلت كصفة ملازمة لها، على أنها عبارة عن "إمبراطوريات" في نمط خاص في عوالم المال والتجارة والإعلام، غيرت المفاهيم التقليدية في قطاعات الإنتاج والخدمات، واستبدلت الأنظمة المتداولة في عالم المال بأخرى جديدة لا تتوقف بموجبها العمليات التجارية والتبادلات، وشراء الأسهم على مدار الأربع والعشرين ساعة يوميا.
وأنتجت عولمة رؤوس الأموال وتداخل الأسواق المالية تدويل الاستثمارات، واختفاء الطابع القومي لرأس المال. كما أخذت البضائع تفقد هويتها الوطنية وصار من الصعب نسبتها إلى جنسية بعينها، لأن الإنتاج تجاوز الوطن الأصلي وتوزع إلى بلدان أخرى لاعتبارات تتعلق بتكلفة المواد الخام، وأجور العمالة، والقرب من سوق الاستهلاك. ونتج عن ذلك تدريجيا استقلال الإنتاج عن وطنه الأصلي. وقد أسفر التطور والاتساع في هذا الاتجاه إلى استقلال الشركات المتعددة الجنسيات والمؤسسات المالية الكبيرة عن الدول. وأدى أيضا إلى تمتع القرار الاقتصادي الذي أصبح يتمتع بسمة عالمية إلى الخروج عن نطاق تحكم الدول القومية.
من هنا تبرز العولمة بوصفها حربا تجارية ومالية غاشمة تزيد من حدة الاستقطاب وتؤدي إلى تعميق الهوة في مستوى التطور بين الدول الغنية والدول الفقيرة، وبين الدول الكبرى والدول الصغرى، وإلى مفاقمة المشكلات الاجتماعية في البلدان الفقيرة أو غير المتطورة .

تسليـــع الثقافــــة:
لم يغفل منظرو العولمة وهم يتحدثون عن لزوم انتصارها، باعتبارها مرحلة نوعية في تطور الحضارة الإنسانية عن الحث على ضرورة توفير أدواتها البنيوية وكذلك عن ضرورة توفير أدوات لترويجها في الأذهان والعقول، وذلك بأسرع وقت ممكن وبأنجع الوسائل. "فقد اعتمدت على عدد هام من الجامعيين والمفكرين والخبراء في مراكز البحث والدراسات الإستراتيجية مثل فرانسيس فوكوياما عبر كتابه (نهاية التاريخ والإنسان الحر) الذي كان فيه داعية مبشرا للنظام العالم الجديد. وعبر خبراء في السياسة والاقتصاد لهم من السمعة والاقتدار ما يكفي للإقناع والتأثير. وكذلك عبر مؤسسات مالية لها من النفوذ والقوة ما يمكنها من فرض رؤاها وتصوراتها. وأخيرا عبر وسائل الإعلام المختلفة والفاعلة بسرعة انتشارها وقوة برهانها القائم على الترديد المستمر، والأسلوب المغري النافذ بالصورة والصوت والكلمة" وأدوات التبليغ المتعددة، مثل: السي دي والسينما والفيديو كليب والتوك شو، وغيرها،. وبدون التورع عن استخدام أي شيء في سبيل ذلك بما فيها الموضة وتطويع الجسد.. إلخ
وأدرك منظرو العولمة وأربابها أن الثقافة مدخلا رئيسا لنشر الأفكار الجديدة، ولإقامة النظام العالمي الجديد الذي يحتاج لترسيخ الليبرالية الجديدة، الموازاة بين فتح الأسواق وانتقاء الحدود من جهة، وإلى نشر أنساق في التفكير جديدة، وأنماط من العيش حديثة، إذ عبر التشابه في الفكر يكون التماثل في السلوكيات لدى كل الأفراد وكل الشعوب.
إن الممارسة الواسعة لهذا المفهوم تشير إلى احتمالات الخطر الجديد على خصوصيات الشعوب، لا سيما عندما تنعكس هذه الممارسات بالسعي "للهيمنة على حقل الثقافة. موظفا في ذلك أيديولوجيا تزعم موت الأيديولوجيات كي تؤيد وتسوغ هذا الشكل الجديد من السيطرة. وإذ انطلقت عملية تصنيع هذه الأيديولوجيا من الولايات المتحدة الأمريكية فقد باتت تحملها اليوم نخبة كونية متجانسة تسعى إلى تنميط العادات والثقافات وطرائق العيش على نمط واحد، نختزل "الحريات" إلى "حرية التعبير التجاري"، و"حق المواطن" إلى "حق التمتع بسيادة المستهلك"، وتشيع خطابا يعتبر أن التاريخ قد انتهى، وأن حاجة الإنسان للنضال من أجل التغيير قد انتفت. وما على الإنسان إلا أن يتكيف باعتبار أن الوضع القائم هو سقف التطلع الإنساني... وفي نظر مروجي هذه الأيديولوجية أصبح التنافس هو القوة الحقيقية المحركة للتاريخ، والسوق هي التي يجب أن تحكم، وما على الحكومة سوى أن تدير. أما الدور الذي كانت تقوم به الدولة فيمكن أن يضطلع به اعتبارا من الآن شبكات عالمية تتشكل من منظمات خيرية وتطوعية.
ويبشر أنصار هذه الأيديولوجيا بأننا قد بتنا، في "عالم المعلوماتية" على عتبة طور جديد ورائع من التطور الإنساني. وأن القضايا التي واجهها الإنسان في العالم الصناعي المتقادم لم يعد لها معنى. وفي الواقع فقد استفاد مروجو هذه الأيديولوجيا من أزمة الأيديولوجيات والمشاريع التحررية التي حملت للإنسان وعدا بالتغيير ولكنها أخفقت فخلفت البأس والإحباط. كما استفادوا من التطور الذي طرأ على تكنولوجيا الاتصال... وفي ظاهرة الانتقال من "حضارة الكتاب" إلى "حضارة التليفزيون"، وهي الظاهرة التي جعلت من التليفزيون منبعا أساسيا للمعرفة..."، تعزز لاحقا بأعمار غير محدودة من باقات القنوات الفضائية التي أخذت تبث مواضيع ومعارف وأخبار ومعلومات حول كل شيء في الحياة، وعن الماضي وعن الواقع والمتخيل. وازدادت المعلومات المختلفة تدفقا على الإنسان عندما تعززت الشاشة التليفزيونية بمصدر رديف هائل القدرات المعلوماتية وهو الانترنت، وأصبح للشاشة الالكترونية، بعد أن أصبحت في متناول أغلب الناس تقريبا دورا مذهلا في ضخ المعلومات من أربعة أركان الكوكب ومن أعالي البحار وأعماقها أيضا.

وأدى التطور الهائل في تقنيات وسائل استعمال الصورة، إرسالا واستقبالا إلى مثوليتها، وإلى إضعاف قيمة الكلمة. وأحدث هذا الأمر إرباكا في توصيف ما يمكن تسميته مجازا "واقع المعلومات" بسبب تفوق قوة قيمة الكلمة على قوة قيمة الصورة من ناحية الأهلية "المرجعية" التي هي أساس بناء المعلومات.
وتذكر شبكة النبأ المعلوماتية "الالكترونية بتاريخ 9/3/2007م جوانب أخرى من هذه الاشكالية مؤادها "أن الافتتان" الذي تمارسه التكنولوجيا الاتصالية الحديثة على الأذهان بقوة بريقها والخطابات التمجيدية المصاحبة لها، قد خلق انطباعا بأن الكثير من المجتمعات المتقدمة تكنولوجيا، على أقل تقدير، تعيش فترة تحولات كبرى من النمط الصناعي إلى النمط المعلوماتي القائم على ركيزتي المعلومات والمعرفة. لكن ماذا نعني تحديدا بـ (مجتمع المعلومات)، إذا أخذنا بهذا المصطلح تجاوزا، باعتباره الأكثر حضورا في الأدبيات التي تتناول الظاهرة...؟ هل هو المجتمع الذي تتسلل فيه التكنولوجيات إلى كل الفضاءات الفردية والجماعية؟.. هل نقصد به المجتمع الذي يملك أفراده الكثير من الحواسيب، ويكثر فيه عدد مستخدمي الإنترنت؟. هل نعني به المجتمع الذي تتشكل عائداته من الأنشطة ذات الطبيعة الذهنية؟...
"يكمن أحد التناقضات التي يمكن معايشتها، في أنه على الرغم من الانتشار الواسع لمصطلح (مجتمع المعلومات)، لكن هذه الظاهرة لم تشكل إلى فترة قريبة، حقلا معرفيا أكاديميا مستقلا يرتكز إلى عدة منهجية ومعرفية خاصة..."
من هنا نجد أن المعلوماتية ظلت حتى اليوم في الإعلام استخداماتية، وليس مرجعية، واحتفظت الصورة بمثوليتها التعبيرية والتأثيرية في فضاء معلومات العولمة، وأداة فعالة ونافذة في وسائل اتصالات العولمة التي يتمحور نشاطها الرئيسي بكل صيغ التمظهر التي يأخذها، في خدمة حملة إعلانية متواصلة للتسويق التجاري.
وأدى هذا الأمر تدريجيا، ولكن بسرعة إلى تنميط العملية الاعلامية بمواصفات الشكل الذي تريده لها ماكينة اقتصاد العولمة الضخمة وعلاقاتها الانتاجية المتعددة وما يتصل بها في مجالات الحياة المختلفة. وقد أدى ذلك إلى إحداث إلتباسات واختلاط مفاهيم في مبدأ التداول الحر عندما رفع التابو عن شرط "التحقق من البراءة" و"الحيادية" عند ضخ المعلومات والموضوعات الاجتماعية والثقافية، وذلك تأسيسا على ما أنجز في إعلام واتصالات الولايات المتحدة الأمريكية، على هذا الصعيد وخلال العقدين الأولين من عصر العولمة.
وبدت الثقافة في بلدان في محيط الفلك، مهددة بالخضوع لقوانين الانتشار العولمية، وللقواعد المعمول بها في سوق البضائع. وبات على (الثقافات) محاكاة الثقافة الأمريكية باعتبارها الثقافة المستقرة وصناعتها هي المسيطرة عالميا، لا سيما في مجالي المسموع والمرئي.
في ضوء ذلك بدت الشعوب والأمم وكأنها مجبرة على التعامل مع الثقافة باعتبارها "بضاعة في السوق"، وعلى إقامة فضاء ثقافي عالمي على النمط الأمريكي، يكون في خدمة المتطلبات السلعية ويراعي شروط السوق.
وأمام المشاهد المبهجة للصور البراقة المدهشة التي تقدمها وسائل وأساليب العولمة للحياة الجديدة للإنسان في مناطق الكوكب المختلفة، يغدو السؤال عن أسباب الاستهجان من تسليع الثقافة محقا، ما دامت الثقافة الأمريكية وما يتصل بها من بعض ثقافات الدول الأوروبية باعتبارها ثقافة السوق، على هذه الدرجة من التطور والإبداع والتنوع والجمالية والإشراق!
ثم ما هو الضير في التكيف مع استحقاقات إندفاع ثقافة العولمة في مناطق العالم المختلفة، والتماثل مع النمطية الجديدة التي يراد لثقافة الشعوب أن تكون عليها، ما دامت هذه الثقافة يراد لها أن تكون للجميع وشمولية، لذلك تحث على المشاركة وتشجيع المبادرة، ولا تغلق أبواب المنافسة لمن استطاع إليها سبيلا من ثقافات الشعوب المختلفة؟!.

تمنيــات تحييــد الثقافــة:
بدت اندفاعة العولمة قوية ومتسارعة. وفي حدود عقدين من عمر تحققها صارت جامحة، غاشمة ثم متغولة. فخافتها الشعوب والأمم في بلدان الجنوب، وعلى رأسها البلدان العربية التي تشارك في الإنتاج الدولي برغبة استهلاك غشيمة هي أقصى مساهمة لها في العولمة. وتوجست منها بعض دول الشمال التي هي شريك للولايات المتحدة فيها، وتتلازمها في بعض مواقع الإنتاج السلعي العولمي، وتتسابق في مضمار التنافس على الأسواق ومناطق المواد الخام. وارتابت منها دول شمال أخرى، إضافة إلى قطاعات واسعة من المجتمع الأمريكي نفسه عندما رأوا أن تنميط الثقافة على الطراز الأمريكي قد تجاوز هذا ا لطراز وتمظهر بمواصفات أخرى ألغت ذلك الطراز وحلت مكانه، فبدا جديدا ومختلفا ومتنوعا يستدعي من الأمريكي نفسه أن يحدث تغييرا شاملا في ذاته ليستلهم الطراز الأمريكي الجديد الذي يراد له أن يكون كونيا وشموليا يطال جميع جوانب ثقافات الشعوب المختلفة.
وانطلقت تأسيسا على ذلك، وانطلاقا من الخوف على الثقافة القومية والاثنيات أصوات رسمية وشعبية تحذر من خطر العولمة على الثقافة، خصوصا وأنها تتجاوز التاريخ على اعتبار أنه إنتهى، وأن "عالم القرية الصغيرة" ربما يصنع قوميته التي تليق به، بعد أن أخذ يتعذر عليه الاقتناع بأي قومية من القوميات القائمة كنموذج كوكبي.
ربما كانت غيرة بعض بلدان الشمال من التفوق الأمريكي سببا من الأسباب التي اثارت الخوف والاحتجاج، الا ان القلق من ان تنال العولمة من ثقافات مجتمعات الشمال كان دافعا قويا للاحتجاج. ففيما رأى جوسبان، الزعيم الاشتراكي الفرنسي "أن قوى السوق لا يمكنها حل مشكلاتنا الاجتماعية ونحن يجب أن لا نترك أوروبة لقمة سائغة لقوة السوق (أي العولمة)"، فإن أبرز كتاب ومفكري فرنسا حذروا في كتاباتهم في شهرية "لوموند ديبلوماتيك" الباريسية في أعداد صيف 1997م من الخطر الذي يتهدد الثقافات القومية للشعوب والأمم بسبب عتو العولمة. وفي سياق نقدهم للعولمة، وأحيانا الدعوة للاحتجاج عليها أخذوا يتابعون نشاط الشعوب وحكوماتها، بما في ذلك الحليفة منها للولايات المتحدة الأمريكية، المتخوفة على ثقافتها الوطنية من العولمة، ويستأنسون بها في صوغ رؤية لا تعارض العولمة ولكنها تدعو إلى ضرورة "إستثناء الثقافة" وصيانتها من مفاعيل ماكينات العولمة التي تسعى الى جرف الثقافة في طريقها وإعادة خلقها وفق شروط العولمة. لأن ذلك إن حدث فسيبرر معارضة العولمة وسيوسع نطاق مقاومتها لأن الأمرعندما يتعلق بالثقافة يطال بشكل مباشر كل فرد من كل شعب.
واستقطبت أمنية "استثناء الثقافة" أو "الاستبعاد الثقافي" اهتماما عالميا، شعبيا ورسميا. وقد ذكر الكاتب هربرت شيلر في شهرية "لومند ديبلوماتيك، آب (أغسطس) 1997م أن السيدة شيلاكويس نائبة رئيس وزراء كندا سابقا وزيرة حماية التراث أعلنت "في تصريح أدلت به قبل فترة، أنه إذا ما واصل الأمريكيون فرض سيطرتهم على الحماية الثقافية العالمية باستعمال الوسائل التي يملكونها، فعليهم أن يتوقعوا لجوء الآخرين إلى إجراءات انتقامية بحقهم..."

"وكانت الحكومة الكندية قد فرضت على الإدارة الأمريكية استبعاد كل النشاطات الثقافية لا سيما في مجال السمعي والبصري من اتفاقية التبادل التجاري الحر التي أبرمت قبل سنوات بين البلدين. أما في فرنسا فقد بات هناك إجماع قومي على ضرورة التمسك بمبدأ "الإستثناء الثقافي" واتخاذ كل الإجراءات الكفيلة بضمان حماية اللغة الفرنسية والإبداع الثقافي الفرنسي. والمثير في الأمر أن الإدارة الأمريكية التي تتمسك بحرية التجارة في مجال الصناعات الثقافية، وتشجع التوجه إلى خصخصة قطاعات الاعلام والاتصالات في البلدان الأخرى، لا تزال تتعامل مع هذه القطاعات على أساس كونها شأنا من شؤون الدولة الاستراتيجية. وتستمر في تقديم الدعم غير المباشر لها" .
إن رغبة السيطرة على الجماعة الثقافية العالمية، التي أخذت تتحول إلى ما يشبه السلوك اليومي لقادة العولمة الذين اصبحوا يعرفون باسم "أسياد السوق الجدد"، شكلت تدريجيا، ولكن بسرعة، بواعث أخرى للخوف لدى بعض آخر من شعوب ودول الشمال بما في ذلك الولايات المتحدة، خصوصا في مجالي الهوية والإثنية، وفي مجال عدم الثقة في أهلية آليات العولمة المختلفة في وقت تفاقم أزمات الدول والمجتمعات القائمة، وظهور أزمات جديدة ذات طبيعة غير مألوفة لا يعرف شيئا عن كيفيات التعاطي معها.
ويذكر الكاتب الفرنسي إيغناسيو رامونيه (شهرية لوموند ديبلوماتيك، أيلول 1997م) في هذا السياق أن قطاعات واسعة من شعوب ومجتمعات أوروبا صارت تشكك في جدوى التقدم التكنولوجي وتعتبره مولدا لكل الأزمات. وبسبب ذلك أخذت هذه القطاعات تلجأ، أملا في حل أزماتها المختلفة إلى أشكال لاعقلانية من التفكير وإلى ممارسات غيبية وغيرها.
وفي أوروبا بات حتى تاريخه أكثر من (40) مليون من المواطنين يترددون سنويا على منجمين ومشعوذين يدعون القدرة على الشفاء من الأمراض. كما تزايدت، بنسب كبيرة أعداد المنتسبين إلى الطوائف الظلامية، وإلى الحركات الخلاصية التي تبشر بقرب ظهور "المخلص".
وفي الولايات المتحدة أخذ ينمو، وبسرعة نفوذ الحركات اليمينية المتطرفة التي تدعو إلى "النقاء العنصري". وتشكلت "الميليشيات المسلحة" التي ترفض العولمة وتعارض الشركات المتعددة الجنسية ولا تعترف بالأمم المتحدة.
وشهد الغرب بشكل عام تحولا نحو ديانات وفلسفات الشرق الروحية، حيث تشير التقديرات إلى أن معتنقي البوذية في أوروبا قد بلغ مليونين ونصف المليون. وبلغ عدد معتنقيها في الولايات المتحدة ما يقترب من خمسة ملايين .
وأشارت إحصاءات أخرى إلى انتسابات واسعة من الأوروبيين والأمريكيين إلى ديانات الشرق بما في ذلك الديانة الإسلامية التي بلغ عدد المنتسبين إليها من الأمريكيين حتى اليوم ما يزيد على (7) ملايين مواطن . وكان هذا الرقم متوقع الارتفاع لولا تصاعد الحرب الكونية على الإرهاب الإسلامي بعد أحداث سبتمبر الإرهابية في نيويورك سنة 2001م.
وبرغم التفاعلات والاختلالات التي نبحث عنها في موازنة معادلة تأييد العولمة ومعارضتها في بلدان الشمال، خصوصا بعد إندلاع الحرب الكونية على الإرهاب الإسلامي، ظلت أشكال مناهضة العولمة، قائمة على الأسباب المذكورة، ومحصورة تقريبا في الكيفيات التي نوهنا إليها، حتى اكتسبت صفة يمكن تعريفها بـ "التقليدية". واقتصرت على المظاهرات المناسباتية عند زيارة الرئيس الأمريكي جورج بوش لبعض عواصم بلدان أوروبا، أو عند لقاءات دولية مثل "قمة الثمانية"...إلخ، أو مظاهرات رفض استمرار المشاركة في حرب العراق، مع مراعاة أن المواقف المنددة لم تكن شاملة لأنها في جانب رئيسي منها معارضة للعولمة والعولمة الثقافية، ولكنها مؤيدة للحرب الكونية على الإرهاب الإسلامي خصوصا في الولايات المتحدة الأمريكية وبعض البلدان الغربية الأخرى مثل كندا وبريطانيا وأسبانيا وألمانيا وإيطاليا وغيرها.
وعلى صعيد البلدان التي تحتل موقعا غير متكافئ في اطار النظام الرأسمالي العالمي، والتي اطلق عليها في عقود النصف الثاني من القرن العشرين وسنوات الحرب الباردة من المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، تسميات مجازية وملتبسة المضمون والمدلول مثل: "العالم الثالث" و"الدول المتخلفة"، و"بلدان التطور اللارأسمالي" و "بلدان حركات التحرر الوطني" و"البلدان النامية"، وغيرها، فقد كانت ردة فعل خوفها على ثقافتها "الوطنية" أو "القومية" صارخة وعنيفة جعلت من بعضها دولا عنيفة. فقد أخذت تجد كل تأييد وتشجيع دعوات الأصوليات القومية والدينية، ودعوات الإنكفاء والتقوقع على التراث، والاحتماء بالهويات، وغير ذلك من الكيفيات التي أريدت دروعا للحماية من العولمة الثقافية والدفاع عن الدين والوطن والهوية.
وحيث تحتل البلدان الإسلامية والعربية (وبضمنها فلسطين) حيزا واسعا من نطاق "البلدان غير المتقدمة" فقد كانت تجليات ردود الفعل فيها واسعة وخطيرة أيضا، لأسباب تتصل باستراتيجية الموقع الجغرافي لبعضها، وبالمكانة الدينية الإسلامية والمسيحية واليهودية لبعضها الآخر، ولاغتناء بعض دولها بالبترول والمعادن وأنواع مصادر الثروة الطبيعية المختلفة. ولأنها تتصل من جانب آخر بمظاهر الالتباس الذي تتسم به الأنظمة التي تحكم هذه البلدان، وعلاقة تبعية هذه البلدان المترجرجة للبلدان الغربية، وحالة التوهان التي تعيشها شعوب هذه البلدان بعد أن فشلت تجارب أنظمة حكم حركة التحرر الوطني في بعضها، وتعززت مكانة أنظمة الحكم التقليدية، جمهورية كانت أم ملكية في بعض آخر منها، وترسخت استبدادية أنظمة بعضها، ملكية أو جمهورية حتى غدت أ نظمة أوليجاركية حقيقية.
ولأن هذه البلدان أظهرت في أوقات كثيرة عجزها عن موائمة ظروف واقعها مع متطلبات تمتع العلاقات الانتاجية فيها باستحقاقات السمات التي يجب أن تكون عليها ثقافة كل واحدة من هذه البلدان. فحيث قبلت شعوب مجتمعاتها، باعتبارها استهلاكية، بشروط تجارة السوق التي يحددها المنتجون ثم الموردون ويلزمون المستوردين بمراعاتها، فإنها ظلت تحاول على الدوام منع حدوث تأثيرات قيمية لها، خصوصا عندما تخمن أن تلك القيم أو ما يشبهها من عوامل يمكن أن تجرح أستار تابوهات الدين أو العادات أو تجافي أي من التقاليد.
وبسبب هزال مشاركة هذه البلدان حتى في اضعف العمليات الإنتاجية واقلها تأثيرا في تطور العولمة غاب دورها عن التفاعلات المتصلة بإمكانية تحييد الثقافة أو الاستبعاد الثقافي من البرنامج التطبيقي للعولمة. وإذا ما صادف أن وجدت بعض مظاهر لهكذا دور على شكل محاولات، فقد بدا واهنا وبلا قيمة.
إن أشكال الاحتجاج على العولمة، والبواعث الفكرية التي وقفت وراءها، والآليات التي تأطرت بها، كانت أعجز من ان تبطئ إنجراف سيل العولمة المتسارع في مختلف مجالات الحياة. كما أن المطالبة باستبعاد الثقافة وتحييدها عبر فعاليات الاحتجاج الدولية على العولمة بدا هراءا لأنه متأت كنتيجة لفهم غير صحيح للعولمة والثقافة.
صحيح أن تسليع الثقافة يعولمها، وأن طغيان الأمركة على مواصفات ومزايا التسليع ينمطها، ولكنه لا يريدها ثقافة واحدة عولمية شمولية، يستسيغون اطلاق مصطلح "الجماعة الثقافية العالمية" عليها. وأن المطلوب عمليا أن تقوم الثقافات بمواكبة تطورات العلاقات الانتاجية العولمية.

ووفق هذا المنطوق تبدو هرائية طرح سؤال استبعاد أو استثناء أو تحييد الثقافة. وتبدو في الوقت نفسه عبثية الأنشطة والفعاليات التي أقيمت وكرست لهذا الغرض وما يتصل به.

إمكانيــة الاستقلال!:
ليست العولمة مجرد مرحلة لها آلياتها من مراحل التطور الرأسمالي، بل هي أيديولوجيا تعكس إرادة الهيمنة على العالم وتقصي الآخر الذي لا يتساوق معها، وتعتمد مفهوم إحلال الاختراق الثقافي محل الصراع الأيديولوجي.
إن العالمية "التي تعني التفتح على الآخر وعلى الثقافات الأخرى المختلفة، والاحتفاظ بالخلاف الأيديولوجي، ترتكز وفق منطوق الفلسفة الماركسية على الصراع الأيديولوجي الذي هو صراع حول تأويل الحاضر وتفسير الماضي والتشريع للمستقبل. أما الاختراق الثقافي فيستهدف الأداة التي يتم بها التأويل والتفسير والتشريع. وبمعنى آخر فهو يستهدف العقل والنفس أولا، ثم الإدراك باعتباره وسيلتهما للتعامل مع العالم. وبسبب ذلك نجد اليوم سيادة لمعنى "الإدراك" في عصر "العولمة" حيث أحادية الاستقطاب على معنى "الوعي" الذي كان سائدا في عصر العالمية "حيث ثنائية الاستقطاب". وبذلك تكون الوظيفة الرئيسية للاختراق الثقافي السيطرة على الإدراك واختطافه وتوجيهه، وبالتالي سلب الوعي والهيمنة على الهوية الثقافية الفردية والجماعية، وذلك عبر استخدام الصورة السمعية البصرية كوسيلة في ذلك، نتطلع أيضا بمهمة تسطيح الوعي وجعله يرتبط بما يجري على السطح من صور ومشاهد ذات طابع إعلامي اشهاري مثير للإدراك، مستفز للانفعال، وحاجب للعقل ومكيف للمنطق ومشوش على نظام القيم. وبذلك يتنمط الذوق، ويتقولب السلوك، فيتكرس نوع معين من القبول لنوع معين من المعارف الثقافية والأخرى. ويزدهر نوع معين من الاستهلاك لنوع معين من السلع والبضائع. وتكون المعارف جميعها إشهارية، تشكل ما يمكن أن يطلق عليه "ثقافة الاختراق".
إن عولمة الثقافة والتكلفة المترتبة على تحقيقها ليست في أهداف أيديولوجيا العولمة، ولا على أجندة سادة السوق الجدد. وهم لا يريدونها وسيقمعون أي مظاهر تشكل لها إذا ما حدثت كجزئية ما في سياق سيرورة عملية العولمة في مكان ما على الكوكب. وهؤلاء الأسياد يرون أن عولمية أي ثقافة من ثقافات شعوب العالم يجب أن تكون على حساب شعوبها، وهي يجب أن لا تكون توحدية مع الثقافة المهيمنة حتى عندما تكون تحت مظلتها لأن العولمة تريد ثقافات وليس ثقافة واحدة، ولكن هذه الثقافات يجب أن تكون استتباعية وتطبيعية مع الثقافة المهيمنة ومع الثقافات الكونية الكبرى الأخرى.
إن الثقافة بوصفها منتجا اجتماعيا، أدخلت بفعل عوامل متعددة في طبيعة العولمة نفسها إلى ميدان العملية الاقتصادية – التجارية الجديدة أسوة بغيرها من المنتوجات الأخرى، وتحررت من القيود الجمركية وباتت قابلة للتداول على أوسع نطاق في العالم، بعد أن أصبحت واحدة من السلع التي تطرح في السوق، وتخضع لكل الشروط المطبقة بشأن تلك السلع، على الرغم من أن مجال المنافسة في تسويق هذه السلعة أصبح ضيقا ولا يتسع إلا للقوى التي تملك الامكانيات الأكبر، وهذا ما جعل تبادلها غير متكافئ ولا يعبر عن أي إمكانية لتحويل العولمة الثقافية إلى تثاقف متوازن بين الثقافات والشعوب والتجمعات.

وهذه اللاتكافؤية تفاوتت بين أمة وأخرى في نفس المنظومة، استنادا إلى حجم مشاركتها في انتاج سلع السوق وليس إلى الحجم الذي نستهلكه منها. ومن المؤسف أن الدول العربية تحتل موقعا متقدما في قائمة الدول المستهلكة وغير المنتجة لكل سلع السوق بما في ذلك المنتجات الثقافية.
أمام هذه الحقيقة، إضافة إلى أشكال المعارضة للعولمة وللعولمة الثقافية بكيفيات الاحتجاج المناسباتية التي أصبحت شبه مقتصرة على الشعوب الأوروبية وبعض شرائح قطاعات المجتمع الأمريكي، وبعمليات الإرهاب الاجرامي التي تمارسها عصابات الإسلاميين السلفيين والوهابيين الأصوليين تحت ذريعة محاربة الولايات المتحدة والدول الأوروبية باعتبارها قوى صليبية، هل هناك إمكانية للاستقلال الثقافي؟!.
"الاستقلالية" التجمعاتية بمفهومها المدني هدف سام عند شعوب الكوكب قاطبة. والاستقلالية كمنطوق دلالتها شمولية باعتبارها شأنا يمس الكيان والهوية وهو غير قابل للتجزئة إلا بالمعنى المجازي، فلا يكون استقلالا في جانب أو أكثر وتبعية في جانب أو أكثر آخرين لأي شعب أو أمة أو بلد في العالم. وقدم الإجازة تتصل بأهلية الدولة، خصوصا "وأن دول الجنوب – ومنها دول العالمين العربي والاسلامي – هي من جنس الدول التي لا ينطبق عليها وصف الدولة الوطنية (أو الدولة القومية)، وذلك لأنها نشأت وتطورت منذ استقلالها السياسي في سياق إنشداد كامل إلى علاقات التبعية للمتروبول (الغربي) واقتصاداته، وهي – هي – التبعية التي تفقدها صفة الدولة الوطنية. وتمنعها من أن تكون كذلك" .
إن دول الشمال وعددا مهما من دول الجنوب هم شركاء في السوق برغم تفاوت التكافؤ والمساواة في هذه الشراكة، وبالتالي فإن أيا منهم ليس في وارد التفكير بالاستقلال ما دام يحصل على نصيبه ويتمتع بحق السعي إلى هذا النصيب عبر زيادة دوره في العولمة وتطوير قدراته في الانتاج وفي رفد السوق والاستفادة من استحقاقات تطوير السوق. وأما باقي الدول الأخرى، وضمنها العربية فالاستقلالية بالنسبة لها واحدة من غايات الطموح، ولكنها لا تدرك أن تحقيقها بالكيفية التي تعتقدها أمر دونه خرق القتاد. وتعود الصعوبة في ذلك إلى ما يمكن استقراؤه من معاينة درجة الخلل الرهيبة في توازن القوى الثقافي على الصعيد الكوني، بين ثقافات تتمتع برصيد هائل من الدعم اللوجستي التكنولوجي، وأخرى مجردة من أي حماية بأي شكل من أشكال القوة التكنولوجية. ولكن هل يعني هذا الأمر غياب ممكنات حراك أخرى في مشهد العولمة الثقافية ونقائضها؟!.
إن أسئلة الاستقلال الثقافي قد تأسست على مضامين دوافع مختلفة، بدأت وتبلورت خلال العقدين الأخيرين من عمر العولمة، منطلقة من رؤى سياسية وأيديولوجية متعددة من العولمة وأسئلتها الثقافية. وتكاد تكون دوافع النزعات الاستقلالية في منظومة البلدان غير المتكافئة مع قوى الهيمنة العولمية، متقاربة، لا بل ومتشابهة بين البعض الكثير منها. وتشكل البلدان العربية أحد النماذج الأكثر صلاحية، لوجودها في أكثر من قارة، وكذلك لوجود بينيات في طبيعة أنظمتها السياسية وفي مديات مستوى تطورها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
إن نظرة تأملية في المشهد الثقافي العربي في مرحلة العولمة، بهدف استطلاع موجبات سؤال الاستقلال الثقافي أو كما يحلو للبعض تسميته "إمكانية المقاومة" أو "تعزيز الممانعة" لحماية الهوية الثقافية من خطر الغزو الثقافي العولمي الداهم، ترى صورة التباسية لمدلولات نسيج تركيبة مفاهيم هذا المشهد المتلازمة والمتوازية والمتقاطعة والمتوافقة والمتعاكسة والمتناقضة والغامضة والواضحة. وهذا يعكس عدم توازن في التركيب البنيوي لهذه الثقافة متأثرا برجحان كفة ما فيها من الميثولوجيا وما يتصل بها من محافظة وتقليدية وتقوقع على كفة العصرنة وما يتصل بها في صنوف الحداثة والانفتاح والتواصل والقابلية للتلاقح والتأثر والتأثير المتبادلين.
وتعكس هذه النظرة ملامح ثقافات هذه الدول الحقيقية، وهي على صورة الثقافة العربية الخائفة من المستقبل، لأنها تفتقر لعناصر قوة المشاركة، ولا تمتلك عوامل التحصن، فتخاف، على الأقل، من الإهمال فالتناسي فالاندثار، باعتبارها من ثقافة الماضي، ثقافة التدين والتقليد.
إن بعض جوانب الصورة الأنصع لهذه الثقافة (في حالة طحن العولمة) تشي بأنها ثقافة تدين ترفض العولمة من حيث المبدأ، وتتنكر لاحتمال تحول صيرورتها نحو الطابع الموضوعي، وما يمكن أن يحققه على مستوى الوعد التحرري الإنساني.
إن الرؤى القاصرة لمدلولات أسئلة صعبة كالاستقلال ليس في مقدورها الإحاطة باجابات صحيحة ودقيقة وموضوعية على سؤال الاستقلال. ولذلك كان جواب من رأى الصورة على هذا النحو، بأن درء الخطر هو بالابتعاد عنه. وإن حماية الهوية لا يتحقق إلا بالانغلاق على الذات وإحياء الموروث الثقافي القديم بالاستناد إلى فكر سلفي ظل حاضرا بمثولية في الثقافة العربية، لأن الاصطلاح الديني في إطار الاسلام كان جزئيا وانتقائيا، وحتى سطحيا ظاهريا، وقد فشل في غضون فترة وجيزة ولم يحقق أي اصلاحات ذات شأن.
وعندما قرر اتباع هذه الرؤية المشاركة في سؤال الاستقلال ومفهوم القصور والتحجر الفكري الذي يتسم به انطلقوا بشعارات إحتوائية تعكس طبيعتهم الإنعزالية والاقصائية والاستئثارية مثل شعار "الاسلام هو الحل". وبهذا فهم أرادوا للثقافة في البلدان العربية والإسلامية مظهر عولمة على مقاس تطلعاتهم، وصورة أيديولوجيتهم. فتحولت الثقافة (في ضوء قرار مشاركتهم في العولمة) من ثقافة تدين إلى ثقافة دينية أصولية سلفية وهابية. والدين بموجبها يطال ويتحكم بما هو ليس من اختصاصه في الدنيا.
وحيث هم يؤمنون، دون أن يشهروا ذلك بالمقولة الفلسطينية الدينية التي ترى "إن المقدس عنيف، ولا سبيل لتطهره من العنف إلا بالضحية"، فأسسوا للمشاركة الكونية مدلولات جديدة تمثلت في الدعوات الجهادية للدفاع عن أرض وبلاد الإسلام. وطوروا الجهادية في نطاق دلالات "عنف المقدس" إلى منظومة الإرهاب الإسلامي الدولي التي يعيش عالم اليوم كابوس تهديدها.
وفي صورة المشهد الثقافي العربي ملامح حالة مناقضة ومتعاكسة مع هذه الحالة تؤشر على عدم منطقية أسئلة معارضة العولمة بما فيها سؤال الاستقلال الثقافي، وممثلو هذه الحالة، وفق وصف المفكر اللبناني علي حرب لهم، أصابتهم خيبة أمل من "الحداثة ومقوماتها". ويعتقدون أن زمننا قد تجاوز الهويات الثقافية القومية. وأن القول بوجود هوية مطابقة معناه الإطباق على القول وقولبة البشر. وفي نظرهم فإن منطق الهوية يبحث عن الأصل والأساس، ويميل إلى المسبق والثابت والمنجز في حين أن الزمن الذي نعيشه بات يفرض علينا أن نستبدل سؤال "من أكون" بسؤال "كيف يمكن لي أن أتغير"، لكي أغير علاقات المعرفة والثروة والسلطة.
ويلتقي أصحاب هذه الدعوة مع أهداف الإسهام بتغذية الأفكار التي يروجها صانعوا أيديولوجية العولمة" .
إن أرباب هذه الحالة يرون الاستقلال في التساوق مع العولمة الثقافية، باعتبارها تجليات عهد إنساني جديد، يتيح للمثقف الحصول على ما يريده من منح للعودة إلى الحياة بمفهومها الأعم المتسع. ويوفر شروط الأقلمة والتكيف للأفراد والجماعات مع استحقاقات العولمة الثقافية وما يغني أفراد وجماعات الثقافات الكونية منها. وهي بذلك تغطي لهم، وخصوصا الليبراليين منهم، فرصا لي يؤكدوا عالميتهم.
وفي صورة المشهد الثقافي العربي حالة أخرى من حالات المطالبة بالاستقلال الثقافي ترى في العولمة شكلا من أشكال الغزة الثقافي لا يهدد الهوية الثقافية العربية بالاستتباع الحضاري فحسب، بل يكرس كذلك "ثقافة الجمود على التقليد"، ويعيد انتاج الثنائية والانشطار في هذه الهوية بين التقليدي والعصري، وبين الأصالة والمعاصرة. إن أصحاب هذا الموقف يتميزون ما بين "العولمة" و"العالمية"، ويرون في نشدان "العالمية" في المجال الثقافي طموحا مشروعا وهم ينظرون إلى الثقافة الغربية على اعتبار أنها كتلة متجانسة وتسلطية على الثقافات الأخرى الضعيفة. ويتعاملون بشكل مجزوء مع مبدأ التفاعل والاقتباس الحضاريتين بما يبرر اقتباس العلم والثقافة الغربيين بمعزل عن الحاضنة الثقافية لنموهما وتطورهما. وهم بهذا السلوك يقطعون الطريق على العرب للاسهام في توفير شروط ولادة العالمية التي ينشدون في المجال الثقافي.
وينتمي إلى هذه الحالة "قطاع واسع من المثقفين العرب، في عدادهم أسماء تحتل مكانة متميزة على ساحة الإنتاج الثقافي العربي... (اللذين وهم يؤثرون في دعوتهم إلى الاستقلال الثقافي يؤثرون التعامل المجزوء مع مبدا التفاعل والاقتباس الحضاريين)، يستعيدون موقفا قديما تبناه رواد الفكر القومي العربي وعلى رأسهم ساطع الحصري الذي أقام سدا منيعا بين الحضارة والثقافة معتبرا أن الأولى التي تشمل العلوم والتقنيات وطرائق الانتاج هي بطبيعتها أممية، في حين أن الثانية التي تشمل اللغة والآداب والفلسفة والفكر هي بطبيعتها قومية" .
واضطلعت نسبة كبيرة من هؤلاء المثقفين العرب بقيادة الحركة الثقافية العربية على مدى العقود الماضية، وإلى اليوم بقدر ما، وتعرفوا على منجزات حضارات وثقافات الشعوب الأخرى، ولكن إلى أي درجة في سلم حضارة العالم أوصلوا الحضارة العربية، وكذلك الثقافة العربية في زمن العالمية، قبل زمن العولمة؟!.
إن المؤسف على هذا الصعيد، أن هؤلاء المثقفين استمرأوا التساوق مع السياسيين (قادة دول وأحزاب) في الانشغال بالبحث عن مواصفات هوية "استقلالية" لانظمتهم، يحتمون تحتها من أسئلة الجماهير عن برامجها ومنجزاتها، وأسباب عدم مواكبتها لمنجزات تطور وتقدم الشعوب الأخرى. وكان ذروة ما تفتقت عنه أذهانهم، اصطلح على تسميته بـ "الخصوصية الثقافية العربية" باعتبارها أداة تساعد على بناء نظرية عالمية تصلح للتعامل مع كافة المجتمعات البشرية في أفق توحيد تكاملي جدلي، وتسمح باكتشاف بعد كل من "المحافظة" و"الاستمرارية" و"التحول" في كل هذه المجتمعات والمجموعات القومية الثقافية .
ولكن هل استطاع مفهوم "الخصوصية" أن يحقق أية جوانب من الإجابة على سؤال الاستقلال الثقافي؟!. مؤشرات الواقع عبر العقود الماضية لم تشر إلى أي من هذا، وإنما أبقتنا أسرى الثنائيات، وذلك لأن هذا المفهوم يقوم على تحيز مسبق ينظر إلى الاختلاف بوصفه العنصر الحاسم. وهذا مخيب للآمال في هذا الزمن الذي يرتسم فيه أفق تحقيق وحدة النوع البشري في إطار تنوعه .
إنها بعض ملامح الإجابة على سؤال إمكانية الاستقلال الثقافي، وهي قد بدت قاصرة وتراوح في مكانها لأنها كعادتها دائما ترفض القبول بحقيقة أنه ليس في وسع أي ثقافة، أن تنفصل في صورة "استقلال" عن الثقافات الأخرى التي هي في حالة تواصل وتفاعل وتلاقح في إطار جدلية التأثر والتأثير المتبادلين.

إن القفز عن حقائق الواقع والزمن في "عالم التواصل" أولا، ثم في "عالم القرية" ثانيا، هو الذي يصعب على "الاستقلاليين" الذين هم في الحقيقة "دعاة انعزالية ثقافية" غير ممكنة يتقاطعون في بعض المواقف مع ارب ثقافة الإرهاب الإسلامي الأصولي، رؤية المعنى الحقيق لعولمة الثقافة.
ويصرون على أنها سيطرة ثقافية غربية على سائر الثقافات بواسطة انتشار مكتسبات العلوم والثقافة في ميدان الاتصال، باعتبارها التتويج التاريخي لتجربة مديدة في السيطرة بدأت منذ انطلاق عمليات الغزو الاستعماري منذ قرون، وحققت نجاحات كبيرة في إلحاق التصفية والمسخ بثقافات شعوب كثيرة. وانطلاقا من هذا الفهم يرى هؤلاء "الاستقلاليون" أن العولمة لا تؤرخ لنهاية عصر الدول القومية، بل تعلن عن ميلاد حقبة جديدة من تمددها المستمر. ويرى هؤلاء العولمة الثقافية كمظهر من مظاهر ذلك التمدد خارج الحدود، الذي هو آلية طبيعية في نظام اشتغال الدولة القومية الحديثة.
وتدفع هذه الاعتقادات أصحابها إلى القول "إن مقاومة العولمة الثقافية ليست دعوة رجعية لقطع آصرة التفاعل الثقافي مع العالم الخارجي، بل هي طريقة للقول أن الثقافة العالمية الحقيقية هي ثقافات سائر المجتمعات من دون استثناء. فالكونية هي التميز في مجال الرموز. وكل نزعة توحيدية في هذا الباب مدماك جديد لبناء صرح الثوتاليثارية"!! .
إن الدأب على استخدام المواقف المكرورة في معالجة قضايا كونية مصيرية، وعاصفة جارفة لا يستقيم معه المنطق، حيث عرفنا حتى الآن وباجماع أن الثوتاليثارية هي السمة الأبرز لـ "العالمية"! وأما "العولمة" على هذا الصعيد فهي تحت مجهر الفحص وفي نطاق مرصد الرقابة.
إن التجارب الأولية المعاشة أظهرت أن مفهوم الاستقلال الثقافي لم يعد اليوم مفهوما وظيفيا كما يراه "الاستقلاليون القوميون"، لا سيما بعد أن صار ما يسميه هؤلاء "بالغزو الثقافي يغزونا إلى داخل بيوتنا. كما أن الفصل الذي يرى هؤلاء ضرورته ما بين العلم والثقافة الغربيين من جهة، وحاضنتهما التي تمثلت في روح المواطنة والتفكير الحر والديمقراطية من جهة أخرى، فقد بينت تجربتنا التاريخية مدى الضرر الذي لحق بنا من جراء هذا الفصل" الغريب.
وأمام هذه الانسدادات في وجه جواب إمكانية الاستقلال الثقافي، هل "الاستتباع الثقافي" أو "الانسحاق" أو "التمسخ الثقافي" قدرا أزليا لـ "البلدان غير المتكافئة ثقافيا مع الأمركة والأوربة"، أم أن هناك خيارات ومفاهيم أخرى بين الإنفصالية الاستقلالية وبين الإلغائية الهيمنية في عصر العولمة؟!.
إن الإجابة على هذا السؤال تكمن في دقة الإجابة التقييمية لثقافة كل واحدة من هذه الدول وتعددية القابليات في كل ثقافة ودرجة أهليتها في التكامل والتفاعل، وذلك إنطلاقا من مفهوم "الهوية الثقافية" في "أفق اسقاط الحواجز الثقافية بين البشر وتجاوز اعتبارات الافتخار الحضاري وصولا إلى بناء مستقبل إنساني أفضل يسوده الحس الجماعي والتكافل والتعاطف في مواجهة كل الأخطار التي تهدد التقاليد الإنسانية .
إن جدة هذا الفهم، وهي تعطي الانسدادات في الإجابة على سؤال الاستقلال الثقافي، مضامين ليست "استقلالية" المعنى المطروح ولكنها تحمل مواصفاتها وتضطلع بدورها أيضا، تستدعي قبول دول وشعوب "العالم المرتجف من العولمة"، وبضمنها الشعوب والدول العربية بضرورة تجديد ثقافتها، وقضايا هذه الثقافة التي لا تقع في التاريخ والجغرافيا فحسب بل في قلب الاجتماعي حيث قضايا الحرية والعدالة وحقوق الإنسان. وهي من جانب آخر التحرر من أسوار اللاهوت والانطلاق إلى فضاءات العقل وتعزيز مفهوم المواطنة.
وإن الحق بالمشاركة هي جوهر التجديد ومضمونه، خصوصا وأنها يجب أن تتعمق في سجال اجتماعي تطال مفهوم الهوية برؤية إنسانية، وتشترك فيه المجموعات البشرية مستفيدة من التراكم المعرفي، وتتعامل مع المتغيرات الحالية باعتبارها جديدا معرفيا، وليست مناخا سياسيا قابلا للتغيير والتبديل.
وإذا كان السجال ما يزال قائما ولم يحسم بعد حول الظرفية السياسية التي نشأت بعد إنتهاء الحرب الباردة، وتحول العالم إلى "أحادية القطب"، وهل هي عابرة أم مستمرة، إلا أن الأفكار الجديدة التي جاءت معها والاتجاهات الجديدة التي ارستها هذه التغيرات ليست عابرة وستترك تأثيرها على كل تحليل وتأويل سياسي وعلى كل ما يتصل به على الأصعدة الاقتصادية والإجتماعية والثقافية، وهذا يتطلب من الشعوب والدول العربية وما يشبهها من شعوب ودول العالم الأخرى إدراك الواقع والتعامل معه، والإقلاع عن ثقافة الكمون وراء جدار التراث، والتمسك بالتجمد والانغلاق الثقافي وتجنب إعادة النظر في المفاهيم الثقافية القائمة ودرجة صلاحيتها في ظل معطيات العصر الجديد.
إن إنجاز استحقاق التجديد الثقافي يفضي إلى مفاهيم "التنوع الثقافي" الذي هو ليس بـ "الاستقلال الثقافي" أو "الخصوصية الثقافية"، ولكنه يتمتع ببعض مزايا كل منهما ويتأهل للقيام ببعض جوانب مهمة كل منهما خصوصا ما كان يتصل برفض "الانسحاق" أو "كلية الاحتواء".
ويطمح التنوع الثقافي إلى خلق التكامل بين الثقافات في أفق اسقاط الحواجز الثقافية بين البشر وتجاوز اعتبارات الافتخار الحضاري وصولا إلى بناء مستقبل إنساني أفضل بدرء أي خط يهدد التقاليد الإنسانية. ويستبدل من جانب آخر مفهوم "طرح الحضارات" إلى مفهوم "تعايش الثقافات".
إن تحقق "التنوع الثقافي" ودوام سيرورته مرهون بتحقق شروط في ثقافة كل شعب في المقدمة منها "حماية الثقافة نفسها ومنع احتضارها"، وهذا ما يضفي على "الاستقلال الثقافي" معنى آخر هو القابل للتحقق ولكن في إطار مناخ التنوع الثقافي. ويتمثل باستقلال الحيز الثقافي عن علاقات السوق الطاغية، والدفاع عن المضامين التساووية والدلالات الإنسانية لقيم الثقافة، وما تؤسس له هذه القيم من بواعث خير وسلام للبشرية جمعاء.
وإن الظواهر التي أخذت تبرز اليوم في ثقافات بلدان العولمة نفسها كممارسات طليعية عديدة في حقلي الآداب والفنون، وكذلك تزايد أنصار الفكر التقدمي، والاهتمام في البلدان الأوروبية وخصوصا الولايات المتحدة الأمريكية بالفلسفة الاشتراكية، هي دليل شاق على أن العولمة الثقافية عندما تستطيع الثقافات الكثيرة المشاركة فيها بالاستطاعات الممكنة لها هي ليست نقيضا بالمعنى التفصيلي لما كنا قد أردناه وربما لا تزال في ثقافة "العالمية".
إن التعمق في حركيات العولمة الثقافية لا تجيز لنا الحق في مواصلة التمسك بسؤال الاستقلال الثقافي الذي هو غير ممكن في الأساس، وذلك لأن في ترددات وأصداء هذه الحركيات ما يحقق ضالتنا المنشودة ليس في "الاستقلال" بمعناه المباشر، وإنما في ما نريده من إمكانيات لممارسة التفاعل وتحقيق رغبة الحفاظ على الروح النقدية في الفكر وإبعاد شبح الحوار الفكري وحماية الابداع الثقافي. يجمع بينها التطلع إلى بناء ثقافة إنسانية جديدة تقوم على التنوع الثقافي للإنسانية، وعلى الاعتراف لكل ثقافة بحقها المتساوي مع أي ثقافة أخرى، وحق كل ثقافة إلى تجنيد استطاعتها لأن تتأهل كمرجعية كونية ولكن بما لا يمس أي ثقافة أخرى بسوء.
ومن هنا فالامكانيات المتاحة هي للتنوع المتفاعل وليس للاستقلال المنطوي، والرهان هو بلوغ النوع.

مراجع:

1/ أنظر: السيد يسين، في مفهوم العولمة/كتاب العرب والعولمة – بحوث ومناقشات ندوه فكرية. مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1998م.ص ص 23-34
2/ أنظر: حاتم بن عثمان، العولمة والثقافة. المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1999م. ص ص 20-22.
3/ محمد عابد الجابري، العولمة والهوية الثقافية. كتاب العرب والعولمة. مصدر سابق. ص ص 297-298.
4/ لمزيد من التفاصيل أنظر: الزبير سيف الإسلام، تأملات في وسائل الاتصال الجماهيري وضرورة تصفية الاستعمار الإعلامي، منظمة تضامن الشعوب الأفريقية الآسيوية، القاهرة. (دون ذكر سنة النشر) ص ص 25-42.
5/ أنظر: السيد يسين، في مفهوم العولمة. مصدر سابق. ص ص 29-32.
6/ حاتم بن عثمان، العولمة والثقافة. مصدر سابق. ص 21.
7/ الدكتور ماهر الشريف، رهانات النهضة في الفكر العربي. وزارة الثقافة، رام الله الطبعة الثانية، (دون ذكر سنة النشر). ص 33



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن