بائعة السمك

بولس ادم
poles_adam@yahoo.com

2007 / 12 / 11

في تلك السنوات التي تشبه صورة وحيدة ونادرة لأعز انسان لن التقيه فيما تبقى من حياتي .. كانت هناك تحت شجرة توت تتدلى على سياج نادي (الفتوة الرياضي) فتاة تبيع السمك منذ الفجر وحتى منتصف النهار وكان اسمها ( صبيحة ) .. وبينما كان الآذان يسمع فجرا من جامع قريب من ( باب الجديد) ، كانت ( صبيحة ) قد فرشت سمكاتها التي قال عنها ( رعد ) بانها تشبه ( اطلاقات الدوشكا )! كانت ايام حرب وكان التشبيه مما يلامس حياة يومية يخيم عليها شعور بحصول كارثة قريبة في اية لحظة في حضرة الأسلحة ، رغم ان الناس كانوا لايصدقون بان الموت سيحصد واحدا من الأعزاء .. كان هناك تخفيف غريزي لجدية الخطر . اعتقدت دوما وفي لحظات النظر الى ( بائعةالسمك- صبيحة ) بانني لن اموت ايضا و..انبت نفسي لشعور مثل هذا فالمختار للموت في تلك الحرب انسان .. وانا انظر الى ( صبيحة )اكملت ذلك الأسترسال في حدس الممات ، بان الرصاص قد يختار ( ابو صبيحة ) وفي تلك الحالة وهي عمياء ، فلي حتما تخيل مدى انانيتي وحجم ماساتها ,كيتيمة !

كانت كلها مخاطبات ذاتية مما تمتلئ به سلال نهارات الحرب من تملي الآخر. لكانه سيختفي فجاة لاانت. وذلك اقبح مافي الحرب !

واتتني شجاعة غامضة لتحمل الصعوبات الكبيرة وذلك اطيب احساس للمرء في ايام الحرب داخل المدن ، اما الجنود فلا يعلنون ثرثرة جوانية حول هذا. فهم لطالما على قيد الحياة فتلك بصمة اكيدة عن فانتازيا الشجاعة . كانت ( صبيحة ) بائعة السمك و ( سيف حاتم ) الجندي الفقير والدها.. كلاهما تورط ببعضه ..

المسكينة ( صبيحة ) كانت رائحة جسدها تشبه رائحة روث البغال التي اعتقدت صغيرا بان اغلبها ( حصن ) لكن اغلبها كانت بغال !

تلك التي تنطلق من سوق ( باب الجديد للخضار ) الى ماحواليه من ازقة عتيقة باسماء.. اشورية وعثمانية واخرى كردية وعربية و كانت سوق لعرب اقحاح .. فالمنادين هناك يصرخون لبيع خيار قثاء وبطيخ ملكي ومعدنوس اخضر .. الا ان ماكان يطلق عليه ( الربل ) في بغداد كان ماينطلق وراء جياد او بغال مجتهدة من كابينات جلدية مسقفة تحملها عجلتان حديديتان قويتان , وكانت تعرف ب( العربانة ) !

( - وين نوصلك ؟
- الى باب لكش ( وذلك باب اشوري / موصلي ) ! ) .

.. ضحكت طبعا لأن تشبيه من دلني الى ( صبيحة ) في جلسة محادثة طويلة كان ( جاسم خوار) وكان عند حديثه عن ابنة خالته ( صبيحة ) قد قال لي :-

- اني احجي الصدك من اسكر, اسطة بولص ! .. صدقني .. (ابو صبيحة) واحد , ابن قحبة .. صدقني هي تبيع سمج يشبه عيورة اليهود! .. ابن القحبة ( صلال ) ماادخي امنين يجيبها ، حيف .. حيف هو ابوها !

.. لم يخبرني ( جاسم خوار ) بان ابن خالته ( صبيحة ) التي تبيع السمك تحت فئ شجرة التوت المتدلي ليسقط ظلالها على سمكها الزوري المتفسخ الذي لايشتريه احد ما ، بانها فتاة عمياء تبيع سمك لايشتريه المارة بمحافظهم الهزيلة .

كنت على موعد مع عاشق للموسيقى يعمل كسائق تاكسي قد خطفني من ذلك المكان وكان يحدثني عن رايه الحميم والعميق حول الحان ( زيادالرحباني ) لأمه فيروز وكان يقود السيارة مسرعا مثل (الطلقة) وكما طلبت منه تماما, وكان بالدقة المتناهية يبادلني الأنتباه والمراة والطريق الى معامل الحلان حيث حياتنا ورزقنا من وراء كتل رخام كبيرة تتحول تحت اصابعنا وبقساوة النحت على صخور ( سنجار ) الى تحف شعبية لتزيين القبور ! ..

- اسطة بولص ، بالله عليك اسمع وشوف توظيف (الساكس) من قبل زياد لما يرافق في الحانه لأمنا جميعا ( فيروز ) !!

.. كنت شديدا في لهجة الحديث الى ابن خالة بائعة السمك وانا اطبق الباب وراء تاكسي تنبعث من مسجله اخر نغمات ( كيفك انتا ، ملا انتا ! )

وتوجهت كالثور الهائج نحو ياقة ابن خالة صبيحة شددته منها لكانه هدف اكيد لمخدوع :-

- ابن خالتك ؟ ابن خالتك لاتبيع سمكا في باب الجديد ..!
رفعت حجارة مربعة كان عليها نقشة فطرية وضعتها في فكه وانا تحت وطاة احساس رهيب بانني مخدوع تماما..

- كل هذي الأيام وانت ياجاسم تستدين مني وتسحب فلوس باسم صبيحة .. ؟ وصبيحة في باب الجديد .. تبيع ولاتبيع ؟ وين الفلوس ؟ وين اتروح ياجاسم .. ؟!

- شيل الحجارة من حلكي اسطة ، شيلها الله يخليك ..

.. كنت قد فعلت ماقاله ابن خالتها ( بياعة عيورة اليهود) مثلما ظنه سمكا ابن خالتها الشهم الذي سحب مني مبالغ لصالحها مستغلا طيبتي ، طبعا كنت في لحظة غليان وانا اود لكمه بشدة ، وكنت انتظر منه تسامحا ، ان يقول لي :-

- اسطة بولص .. اخي ، نحجي بالبار بالتفصيل ووونتفاهم هناك ..!

هو لم يقل ذلك .. بل انا الذي غادر ملكوما مزرق العين , وهكذا حصل غيابي عنهم ليومين قضيتهما في اجازة تمثلت بالوقوف قريبا من بائعة السمك ( صبيحة ) !

.. عيناها بياض مفتوح على حليب الملائكة .. صوتها وكانها تنادي اوطا من صوت السمكة وكانت تريد بيع سمك كانت تهدهده نغما عاليا..

.. - سمج سمج .. سسسسسمج مثل الشموع ..س شموع شموع .. !!

لااحد يشتري . بل يضحك وهو يسترق النظر الى شموع صبيحة السمكية.

نصفا نهار وانا اتتبع تلك الدراما الهندية !

..
عدت الى عملي بعد ان ملأت جوفي بصحن ( باجة) صباحا ..

عند طبق باب التاكسي ثانية على اخر وصلة غنائية لفيروز ..



كان ابن خالة صبيحة .. لكانه بانتظاري بين صخور ورشتي !

.. حاولت تجاهله وانا قانع تماما لمسامحته على لكمي بقساوة ازرقاق فضائحي ، اثاره على وجهي. وانا افكر لنفسي بانني من اجل قواد مثل ابن خالة صبيحة , غباء مني حتى مساعدته في شرب البيرة ! وقلت .-

- ها ابن الحجية ؟ ما سويتها الا ويا ابن نعمتية ؟ !!

- لا .. لا حاشاك اسطة بولص ..

- اكيد راح نتفاهم بالبار هههههه ؟!

.. اقبل ابن خالة ( بائعة السمك) لتقبيل يدي التي سحبتها مستحيا واثنيتها خلف ظهري .. كنت قد حضرت (لكمة) دسمة الى وجهه !

- لابار ولا هم يحزنون . ابني احجي الصراحة ؟ ياابن الكحبة !

- اسطة؟.. الصراحة مو يمنا ..

.. الصراحة عند زوجتي , صبيحة !



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن