اختراع الشرق: وظيفة النظام الثقافي الاوربي

يوسف محسن
yusef96112000@yahoo.com

2007 / 10 / 26

تكمن قيمة عمل ادوارد سعيد (الاستشراق 1987) في قدرته على اكتشاف علاقات الهيمنة في بنية الانساق الاستشراقية، وايجاده تلك الصلات الخفية والغامضة التي تتحكم بآليات القوة (و) المعرفة داخل اثريات تاريخ الثقافة الاوروبية حيث خضع هذا النسق الاستشراقي للنموذج الديكارتي الذي يدعو إلى المعادلة: ان تفهم الشيء من اجل السيطرة عليه ينبغي البدء بالمعرفة اولاً ولكن لا تستطيع ان تعرف وتفهم الشيء إلا بشرط ان تتحرر ولو لحظة واحدة من هاجس السيطرة ذاته. فقد انطلقت قراءة ادوارد سعيد من اسئلة بشأن تمكن النظام الاستشراقي (من وعي الذات عبر وعي الآخر) بعملية تاريخية معقدة (تبويب) (تصنيف) (تخطيط) (اختراع) مجتمعات الشرق وقد استخدم هذا النظام الاستشراقي أدوات تاريخية ومناهج انثربولوجية وارث الفلسفة الاوربية لبناء نسق معرفي تحليلي لهذه المجتمعات. تمركز عمل ادوارد سعيد في... تشكل مادة الشرق لدى دراسته ظواهر الشرق وقد شبه وحدات المواضيع هذه بالمسرحية الهزلية ذات الشخصيات الثابتة، ذلك ان وراء الخطاب الاستشراقي بمختلف وحداته مجموعة من الرموز والمجازات (العظمة: افصاح الاستشراق) حيث قدم سعيد في عمله (الاستشراق) رؤيا (أثرية) لنظام الثفافة الاوربية بآيديولوجياتها وبنزعتها الانسانوية والوضعية والانقلابية الفكرية والسياسية والمغامرات الفلسفية (اوربا متعددة الوجوه) (أوربا الانوار) (أوربا الامبريالية) (أوربا الحداثة).
نلاحظ ان التطورات التي حصلت في الانظمة الاقتصادية والعلوم والتقنيات والمنظومات الفلسفية والسياسية ما بعد عصر الانوار شكلت معياراً حقيقياً لاختراع الشرق (الآخر) وليس وعي الافراد كذوات أي ان (الشرق الاستشراقي) متشكل من خلال (وعي بنيوي متخيل) هذه العملية الاجرائية التاريخية الكبرى تمت عن طريق تنظيم وتصنيف الرؤية الاوربية (للقوميات) في مجرى القرن التاسع عشر في خليط مثير للدهشة من الاحكام المسبقة بصدد رؤية كل قومية اوربية للاخرى اولاً وبصدد الرؤية الاوربية للعالم غير الاوربي ثانياً. وكانت مرحلة التساؤل والاستفهام والتقصي وتأكيد مكانة اوربا وتوعيتها في العالم وفي التاريخ اخذت تندثر، وتتوارى التمثيلات التي شكلت هذا العصر امام تقدم اليقينيات الهيغيلية الكبرى والمعززة بتطور العلوم والتقنيات التي وظفها ريناث وغوبينو لتشييد نظام هرمي للمجتمعات البشرية يعزز لدى الاوربيين شعورهم بالتفوق.
يبدو ان المتخيل الاستشراقي عن الوجود الموضوعي للشرق (كهوية منفصلة) و(فضاء للهيمنة) كان يحدد ما يعززه في لعبة (المرايا المتبادلة) في نظام الثقافة الاوربية بين مجتمعات الشرق والمجتمعات الاوربية منذ مطلع القرن التاسع عشر إذ (يعاكس) كل منهم صورة الآخر ، ففي قراءة لـ فرانسوا هارتوغ (مرآة هيرودوتس) نجد ان هيرودوتس يحدد من خلال هذه المرآة معالم الحداثة اليونانية القديمة بالاستناد إلى ثنائية (الأنا) المتحضر و(الآخر) الهمجي وفالسيقتيون كان من البدو الرحل عند التخوم البلقانية لأورياهم الذين أدوا يومئذ دور المرآة لتحديد معالم الهوية الاغريقية المتجذرة في التطور الحضري وما كان لعصر النهضة الاوربية المفتون بتاريخ اليونان القديم إلا ان يصطنع لنفسه على غرار هيرودوتس مرآة للآخر ليحدد هويته هو ذاته ، وسوف يشكل الاسلام أو الشرق اللا معين الحدود الهلالية ذريعة ستساعد على تركيز الهويات السياسية للمجتمعات الاوربية داخل الرؤيا الثقافية. فالاستشراق نمط من انماط التمركز حول الذات هو عنصر تشريحي لقراءة انساق السرديات الثقافية والاقتصادية والفلسفية التي يشكلها النظام الثقافي الاوربي وجزء من الصيرورات التاريخية للافراد والجماعات، فمن الصعب ان نتصور ان (اختراع الشرق) في الفرضيات الاستشراقية تكون وتبلور وتشكل خارج (مركبات الثقافة الاوربية) حيث ان الخطاب الاستشراقي وجد في الشرق نموذجاً لتحقيق اشباعاته في التأسيسات التخيلية وترسيم الهوية واعادة تنظيم التمركزات داخل الفضاءات الاوربية. فهذا الخطاب الاستشراقي يقوم في تأسيساته الاولية باقصاءات متعددة للمرجعية السوسيولوجية (المولدة للمعنى) لكونه يمتلك معنى محدداً (قبليا) وارضية ميتافيزيقية وانساقاً ثقافية ترفيهية عن الشرق ويميل إلى انتاج وتوسيع وتحويل المعنى جزءاً من آليات القوة / الهيمنة.
وقد شكل الخطاب الهجائي لأدوارد سعيد للمنظومة الاستشراقية مادة خصبة للقراءات الاصولية الدينية والقراءات القومانية حيث العودة إلى انتاج اسطورة الخصائص الدائمة والطابع الثابت والتي نجد جذورها في النظام الميتافيزيقي للثقافة العربية التي تقوم على (وجود نظام معرفي خاص يلائم كلا من جوهر الطبيعة الغربية والطبيعة الشرقية على حدة طبقاً لصادق جلال العظم.
ان تفكيك هذه القراءات التي تقع في فتح استشراقي مقلوب حيث تسعى إلى (ابدال) تفوق العقل الغربي وديناميكيته بتفوق العقل العربي وهذا معناه (وضع ثقافة فوق ثقافة ووضع فاعل فوق قابل ومعناه بالتالي حذف مقولة التبادل او التفاعل الثقافي التاريخي بين المجتمعات).



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن