العراق في الحقبة الامريكية

عزيز الدفاعي
Azjadeirq_55@yahoo.com

2007 / 10 / 10




(الجزء الاول)

لما كان ظهور الولايات المتحدة الامريكية متأخرا على خارطة السياسة الدولية بفعل نشأتها قبل ثلاثة قرون فان تأريخ العلاقات بين الولايات المتحدة الامريكية والشرق الاوسط يمتد الى نحو مائتي عام خلت وبالتحديد في عهد الرئيس الثالث للولايات المتحدة توماس جيفرسون (1801-1809) الذي خاض حربا لوقف مااعتبره اعمال قرصنة ضد مصالح بلاده في البحرالابيض المتوسط بعد آن امر والي طرابلس الغرب يوسف قرمنلي باشا جنوده بتحطيم سارية العلم المرفوع فوق القنصلية الامريكية في طرابلس عندما رفض الامريكيون دفع اتاوات اكبر لحماية سفنهم من القرصنة التي كانت منتشرة انذاك في البحار .
في عام 1805 قصفت البحرية الامريكية مدينة درنة الليبية وكانت تلك هي المرة الاولى التي يرفع فيها العلم الامريكي في معسكر للجيش في المنطقة العربية في اعقاب التوصل الى أتفاقية سلام مع الوالي العثماني .
ويرى البروفسور ديفيد لش استاذ تأريخ الشرق الاوسط في جامعة ترينيتي الامريكية آن بلاده هي من اكثر القوى الخارجية تأثيرا في سياسة الشرق الاوسط رغم انها لا تلقى ترحيبا وقبولا شعبيا واسعا بسياساتها هناك, ويضيف انه كان بالامكان آن تكون هذه السياسة الخارجية ابعد نظرا بكثير مشيرا الى آن الصورة المشوهة عن الشرق الاوسط والاسلام لدى الامريكيين تمتد لعقود طويلة وقد لعبت ظروف الصراع الدولي دورا هاما في تشكيلها .
والواضح آن علاقات واشنطن بالشرق الاوسط وأزماته بدأت واضحة خلال القرن الماضي وخاصة بعد الحرب العالمية الاولى مباشرة, وتصاعدت بصورة منسجمة مع ارتفاع نفوذ وتطلعات الشركات الامريكية للطاقة والتجارة والنفوذ وكان حضورها بارزا في مرحلة لاحقة في ايران وافغانستان وتركيا, اضافة الى مصر بعد الاطاحة بالنظام الملكي في القاهرة عام 1952بمباركة امريكية وكان لواشنطن دور بارز في مصر في مرحلة مابعد العدوان الثلاثي عام 1956 وخلال حرب حزيران- يونيو عام 1967 وما تلاها من مشاريع قدمتها الادارة الامريكية لانهاء النزاع بين العرب والإسرائيليين .
اما في منطقة الخليج العربي فان الولايات المتحدة كانت متهيئة لملأ الفراغ الذي تركته بريطانيا العظمى بعد آن قررت الانسحاب من تلك المنطقة عام 1968 والذي نفذ مطلع السبعينات خاصة وان الادارة الامريكية قد ارست قاعدة هامة واستراتيجية لها في ايران اكبر دول المنطقة منذ عام 1953 عندما نجحت ادارة روسفيلد في الاطاحة بحكومة رئيس الوزراء الايراني محمد مصدق الذي قام بتاميم النفط واعاد الامريكيون شاه ايران محمد رضا بهلوي الى عرش الطاووس في طهران ليكون اداة طيعة لخدمة مصالحهم في هذه المنطقة .
في مطلع الثلاثينيات سعى الامريكيون سرا للقاء ملك العراق فيصل الاول في جنيف من اجل اقناعه بمنحهم امتيازات للنفط الا آن المخابرات البريطانية اكتشفت هذا الامر بحيث آن فيصل الاول مات بعدها بفترة قصيرة في ظروف غامضة .
لقد شكلت حركة 14 تموز 1958 في العراق التي انهت النظام الملكي والوجود البريطاني فرصة مواتية للولايات المتحدة لملا فراغ السلطة الذي خلفه البريطانيون, لكنها كانت تراقب بحذر مايجري في العراق بعد آن تصاعد نفوذ الشيوعيين في السلطة في بغداد وبدءوا بالتقارب مع السوفيت الذين وقعوا مع الجمهورية العراقية اتفاقية صداقة عام 1959.
ولهذا فان سياسة جمال عبد الناصر مع الامريكيين قد لعبت دور هام في الكثير من الاحداث التي شهدها العراق في تلك الفترة المضطربة والتي قادت في المحصلة الى اجهاض تلك التجربة واعدام عبد الكريم قاسم عام 1963 حيث اعترف قيادي بارز في حزب البعث هو علي صالح السعدي بأن الانقلابيين جاءوا على ظهر دبابة امريكية .
آن المعلومات المتاحة عن طبيعة الدور الامريكي في العراق خلال تلك الفترة المضطربة من تأريخه لا تلقي المزيد من الضوء لتوضيح دور واشنطن في العراق .فالدكتور عزيز الحاج في كتابه (شهادة للتأريخ)يرى آن الولايات المتحدة تقاربت مع مصر في مسعى مشترك لضرب سلطة قاسم وأبادت الشيوعيين في وقت كانت علاقة القاهرة مع الكرملن في مراحلها الاولى .

ويبدو لنا انه لو نجح الشيوعييون في ازاحة الزعيم عن السلطة انذاك وتسلموها مباشرة مثلما كان يطالب بذلك جناح قوي في هذا الحزب فأن الولايات المتحدة وبريطانيا ربما لم تترددا في اجتياح العراق انذاك لانه اعتبر من بين الخطوط الحمراء في خارطة الصراع خلال مرحلة الحرب الباردة .
آن عددا غير قليل من القوى السياسية العراقية تحمل واشنطن والقاهرة المسؤولية عن كل الخطط التأمرية على الجمهورية الاولى ومنها انفراط جبهة الاتحاد الوطني وخطة اغتيال الزعيم عام 1959 والمشاركة في انقلاب 8-فبراير- شباط عام 1963 ثم الانقلاب على الانقلاب بأسناد عبد السلام عارف .
ويكشف الدكتور حامد البياتي في كتابه (الانقلاب الدامي) عن وجود معلومات استخباراتية من داخل بغداد وصلت الى لندن وواشنطن نقلا عن سياسيين عراقيين بارزين وصفوا بأنهم اصدقاء وموالون للغرب كانت تشير الى وجود خطة انقلابية للاطاحة بالزعيم وتصفيته واسقاط نظامه لكن هذا الكتاب لا تقدم ادلة واضحة ودقيقة بشان هذا الموضوع ولايكشف عن اسماء الشخصيات العراقية التي كانت على صلة بالامريكيين بشكل خاص .
لقد كتب الكثير من المذكرات عن تلك الفترة الدامية من تأريخ الصراع على العراق وعن العلاقات الامريكية مع عبد الناصر وحزب البعث العراقي الا انها زادت من حيرتنا خلال بحثنا عن تفاصيل اوسع وادق حول حقيقة الدور الامريكي في العراق .
آن مذكرات اكرم الحوراني والمرحوم طالب شبيب وتصريحات علي صالح السعدي امين سر الجناح اليساري لحزب البعث انذاك التي اكد فيها بان البعثيين وصلوا الى السلطة على ظهر دبابة امريكية ينفيها الجناح الاخر من الحزب كما آن مذكرات هاني الفكيكي (اوكار الهزيمة)لا تعيننا كثيرا في تقديم تفسيرات ووقائع معززة بالوثائق والادلة والاعترافات الرصينة حول الدور الذي قامت به واشنطن في اسقاط جمهورية الزعيم واعدام المئات من كوادر الحزب الشيوعي العراقي حسب ادعاءات هؤلاء الساسة والمؤرخين .
بعد نصف قرن على تلك الفترة الكارثية من تأريخ بلاد مابين النهرين في العصر الحديث يشير كاتبان امريكيان مرموقان وهما NAUM CHOMSKY الحائز على جائزة نوبل وMILAN RAI في كتابهما WAR PLAN IRAQ ))آن وليام ليكلاند مسؤول المخابرات المركزية في السفارة الامريكية في بغداد بالتعاون مع عدد من الجنرالات العراقيين وقادة حزب البعث قد نجح في رسم خطة انقلاب 8-فبراير- شباط عام 1963 والتي اعتبرها السوفيت انذاك صفعة قوية وجهت لهم ولطموحاتهم في العراق .

لقد تبنت واشنطن سياسات مدروسة وواضحة تجاه العراق انطلاقا من مبدا نكسون (1969-1974)الذي صاغه وزير الخارجية هنري كسنجر بايجاد بدائل في الشرق الأوسط بعد حرب فيتنام لتحقيق المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية تعزز من دور إسرائيل في هذه المنطقة الحيوية من العالم وتكمل أضلاع المثلث الممتدة من الرياض الى تل ابيب وطهران وصولا الى بغداد.

لقد ألقت تداعيات الحرب الباردة بظلالها على دول المنطقة وبضمنها العراق ولازال حتى الان طي المجهول دور الأجهزة السرية الأمريكية في الأحداث والانقلابات الدامية اللاحقة في العراق حتى 17-تموز –يوليو -1986 حين تسلم البعثيون السلطة من المرحوم الرئيس عبد الرحمن عارف في انقلاب لم ترق فيه قطرة دم واحدة. آن شخصيات عراقية بارزة مثل حردان التكريتي وعبد الرزاق النايف وعبد الغني الراوي وغيرهم من جنرالات المؤسسة العسكرية في العراق كانوا على صلة وثيقة بالمخابرات البريطانية والامريكية بشكل او بأخر .

وكشف لنا سياسي عراقي عمل في الملحقية العسكرية العراقية في موسكو عام 1969 آن المخابرات المركزية CIA نجحت بيسر في تجنيد احد زملائه في السفارة بعد لقاء سري تم مع عملاء لها في بون ولم يكن هذا العميل الامريكي سوى الدكتور فاضل البراك الذي تسلم قيادة مؤسسات امنية هامة في العراق والذي لقي حتفه على يدي صدام حسين قبل سنوات قليلة من الغزو الامريكي لبغداد لاتهامه بمحاولة انقلابية ضد الرئيس العراقي السابق .حيث قام صدام بإلقائه حيا للكلاب المتوحشة والجائعة أمام عيون أعضاء مجلس قيادة الثورة .

ويرى عدد غير قليل من الساسة والباحثين العراقيين بأن واشنطن لم تكن بعيدة عن الدفع بصدام حسين لتسلم القيادة العراقية من احمد حسن البكر الذي كان شديد التوجس من الأمريكيين ورافضا لأي تورط عسكري خارجي ضد ايران بعد نجاح المؤسسة الدينية في إسقاط نظام الشاه عام 1979 .
كما ان قياديين بارزين في حزب البعث ومقربين من دمشق اتهموا المخابرات الأمريكية بأنها كانت وراء تصفية قيادة الحزب عام 1979 على يد صدام حسين لان اغلبهم كانوا من ذوي التوجهات الوحدوية مع سوريا والتحالف مع المعسكر الاشتراكي .

لقد برزت أهمية العراق في الاستراتيجية الامريكية بعد سقوط عرش الطاووس الشاهنشاهي على يد اية الله الخميني وغزو السوفيت لافغانستان الذي اوقع الامريكيين في مأزق اشتراتيجي خطير, ولم يكن بأمكان الولايات المتحدة التورط في حرب قد تكون اشد قسوة من فيتنام .

أن اي مراقب منصف لا يمكن له ان يتخيل ولو للحظة واحدة ان قرار شن الحرب ضد ايران الذي اتخذه صدام حسين ذو العقلية الأمنية والرهان على القوة العسكرية والعنف كان ليتم لولا ثقته بان الغرب والولايات المتحدة الأمريكية خاصة ستقف خلفه بكل ثقلها في تلك المغامرة العسكرية الخطيرة. وانه ربما حصل على ضمانات سرية مسبقة ومؤكدة بذلك بوساطة رئيس دولة مجاورة انتقل الى العالم الأخر قبل سنوات ,وبقي الرئيس العراقي السابق يردد حتى أخر لحظة من حياته انه حمى الحضارة الغربية من عاصفة الثورة الإسلامية التي كادت ان تطيح بمصالحهم النفطية والعسكرية في المنطقة. وكان يدرك تماما ان الولايات المتحدة هي اللاعب الأهم في رسم وتحديد مستقبل بلاده ودول المنطقة .

لقد أنضجت نار الحرب العراقية الإيرانية العلاقات بين واشنطن وبغداد رغم عدم وجود تمثيل دبلوماسي بين البلدين آنذاك , واعتبرت واشنطن ان بغداد ستكون حليفا لها في صراعها مع النظام الاسلامي في ايران وكانت تعتقد بأن صدام ونظامه كان مؤهلا لصد الاخطار المتوقعة من وراء انتشار الاصولية الاسلامية .
احست ادارة الرئيس رونالد ريجان بالانزعاج الشديد عندما اقدمت اسرائيل على ضرب مفاعل تموز النووي في 7- حزيران –يونيو -1981 بينما كانت القوات العراقية تتوغل في العمق الايراني . وكان وزير الدفاع كاسبر واينبرغر من اشد المنزعجين من سلوك الإسرائيليين على العكس من وزير الخارجية الكسندر هيج الذي كان متحفظا على التعاون مع صدام حسين.
لذا اوعز الرئيس الامريكي لمندوبة بلاده في الامم المتحدة للتعاون سرا مع مندوب العراق وحلفائهم الاوروبيين لصياغة قرارا دولي يدين قصف اسرائيل للمفاعل العراقي وهو ماشجع بغداد على الوثوق الحذر بنوايا الادارة الامريكية.

اضافة لذلك اوعزت واشنطن لحلفائها الخليجيين في المملكة العربية السعودية والكويت لتزويد بغداد بما تحتاجه من مساعدات مالية سخية. وقامت وزارة الخارجية الامريكية بشطب اسم العراق من قائمة الدول المساندة للارهاب لعلاقاته القوية مع المنظمات الفلسطينية اليسارية وقياداتها المتطرفة من امثال ابو نظال ووديع حداد وغيرهم , وشجعت 85 دولة في العالم على تزويد العراق بالسلاح والعتاد المتطور ومن بينها فرنسا التي ارسلت طائرات( السوبر اتندر) التي كانت اهم طائرة عسكرية لحلف الناتو انذاك, كما قدمت واشنطن للعراق معلومات استخبارية وصور لتحركات القطعات العسكرية الايرانية والمواقع الحساسة .
في عام 1983 بعث الرئيس رونالد ريجن الى بغداد مبعوثه الخاص دونالد رامسفيلد الذي حمل رسالة الى صدام حسين يعرض فيها عودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين واستطاع رامسفيلد آن يقنع الرئيس العراقي بأهمية التعاون بين البلدين في مواجهة ايران رغم آن الاخير ابلغه مازحا انه يخشى الا يطول شهر العسل بين البلدين اذا ما تحققت الاهداف الامريكية بدحر ايران .

وتشير مصادر امريكية الى ان افتضاح صفقة الاسلحة الاسرائيلية لايران بوساطة امريكية في ما عرف( بأيران غيت)التي كشفتها مجلة الشراع اللبنانية قد ازعج بغداد كثيرا التي طلبت من الولايات المتحدة مقابل ذلك تزويدها بمعدات لانتاج اسلحة الدمار الشامل ولم يكن بمقدور الرئيس الامريكي الاستجابة لهذا الطلب الا ان واشنطن نقلت لاطراف غربية حليفة وصديقة لها مخططات تصنيع هذه الاسلحة المحرمة دوليا والتي نفذت على يد شركات المانية وبرطانية ومصرية وغيرها وفرت لمؤسسات التصنيع العسكري العراقي المواد اللازمة والاجهزة الضرورية والخبرات .

في تلك الفترة كانت الولايات المتحدة وبمساعدة السعودية منهمكة بتمويل وتدريب المجاهدين الافغان لمواجهة القوات السوفيتية وقد استقبل الرئيس الامريكي في البيت الابيض القائد الافغاني قلب الدين حكمة يار الذي وصفه بأنه احد المقاتلين من اجل الحرية والعدالة في بلاده .
آن تفاصيل التعاون العسكري بين العراقي والولايات المتحدة والذي شمل الاسلحة التقليدية والتعاون الاستخباري والدعم العسكري والسياسي يكشف عنه الكاتب الامريكي المعروف الن فريدمان في كتابه( نسيج العنكبوت التأريخ السري لتسليح البيت الابيض للعراق بطرق غير مشروعة)والذي رفض الرئيس الامريكي جورج بوش الاب الذي كان انذاك نائب للرئيس ريجان التعليق عليه او نفي ماورد فيه من معلومات .

قبل اشهر قليلة من انتهاء الحرب العراقية الايرانية عام 1988 زار الصحفي المعروف محمد حسنين هيكل بغداد لحضور إحدى المؤتمرات في بغداد وقد نقل لصديقه وزير الخارجية طارق عزيز, الذي عرفه خلال قدومه للقاهرة عام 1969 حين ارسلته القيادة العراقية للتدريب في جريدة الاهرام القاهرية, رسالة صريحة مفادها آن المواجهة القادمة في المنطقة ستكون بين الولايات المتحدة الامريكية والعراق.... ولم يعرف فيما اذا كان هذا الاستشراق المبكر للصحفي المصري ذي الصلات الدولية الواسعة مبنيا على معلومات سرية حصل عليها او هو استنتاج خبير بأوضاع المنطقة وشؤونها ,والى اي مدى تعاملت القيادة في بغداد بجدية مع هذه المعلومة الخطيرة .
آن المرحوم طالب شبيب القيادي البارز في حزب البعث العراقي والذي سجل مذكراته عن اسرار وخفايا قيادات الحزب على اشرطة صوتية وصلت الى دمشق لكن جزءا كبيرا منها اختفى في ظروف غير معروفة يعترف بأن صدام حسين لم يكن في اي يوم من الايام عميلا للامريكيين او انه من صنيعتهم....في حين يشير اخرون بأنه على العكس من ذلك كان يكن لهم الحقد الدفين ولا يثق بسياستهم في المنطقة وان تعامله الطويل معهم كانت تحكمه البراغماتية والتقاء المصالح لا غير.
ويشارك هؤلاء في الرأي عدد من المقربين من صدام حسين الذين يرون آن تداعيات الحرب مع ايران واختلال ميزان القوى العسكري فيها بعد عام 1982 لصالح الايرانيين الذين احتلوا مناطق واسعة من الشريط الحدودي بين البلدين الذي يمتد على مسافة 1200 كم, واستنزاف الحرب لموارد العراق البشرية والمالية وتراكم المديونية الخارجية لم يترك امامه خيارا سوى التورط بعلاقات اوسع مع واشنطن التي ربما حاول نفض يده من العلاقة معها بعد انتهاء تلك الحرب لانه كان يرى انها ستسيء الى صورته كزعيم قومي بات له حظور ونفوذ واسع في المنطقة .

بعد انتهاء الحرب العراقية الايرانية شعر صدام حسين بانه ليس مدينا للامريكيين بشيء لانه اوقف مد الثورة الايرانية في الخليج واجهض مخططات طهران لتصدير الثورة وحمى النظم السياسية لاصدقائهم وابعد المخاطر عن عروش دول الخليج .وبدى وكأنه اصبح شرطي المنطقة الجديد وحاكمها الاقوى دون منافس.
لقد تباينت مواقف الساسة الامريكيين بعد انتهاء الحرب مع ايران بشأن مستقبل التعامل مع بغداد فمنهم من كان يرى آن الرئيس العراقي قد يقوم بدور يفوق الدور الذي قام به الرئيس انور السادات بالمبادرة بالسلام مع اسرائيل عام 1977 والتي قادت للتوقيع على اول معاهدة سلام اسرائيلية عربية عام 1979.وكان هؤلاء الساسة متأثرين بأراء باحثين مرموقين في جامعة جورج تاون .
لقد قدمت الادارة الامريكية للعراق عام 1988 مساعدات وقروض سخية بقيمة 3.5 مليار دولار وابدت استعدادها لتنفيذ مشروع عسكري وأقتصادي ضخم كان كفيلا بأن يجعل من العراق القوة الاهم والاقوى في المنطقة خلال عشر سنوات قادمة.
على العكس من ذلك كان هناك تيار معروف داخل الادارة الامريكية في مقدمته وزير الخارجية الكسندر هيج متحفضا على الاستمرار في دعم صدام حسين ويشاركه في ذلك وزير الخارجية الاسبق هنري كسنجر الذي عبر عن آرائه هذه في مقاله المعروف (الطريق الى القدس يمر ببغداد) فكل من هيغ وكسنجر كانا يعتقدان آن على الادارة الامريكية السعي نحو تطبيع العلاقات مع طهران لان اهميتها الاستراتيجية تفوق العراق. اضافة الى آن خروج العراق من هذه الحرب بترسانة عسكرية ضخمة وجيش تجاوز المليون مقاتل وصناعات عسكرية طموحة قد احدث خللا في ميزان القوى في الشرق الاوسط. اضافة الى معرفة المسؤولين الامريكيين بالطبيعة النرجسية في شخصية صدام حسين ومااصيب به من غرور بعد انتهاء الحرب مع ايران.
وممازاد من رصيد هذا التيار المناهض لصدام حسين وماعزز من قناعته هو رفض العراق منح الولايات المتحدة اي امتيازات نفطية مقابل عرضها لشراء ديونه الخارجية البالغة انذاك 61 مليار دولار والذي قدمه وفد رفيع المستوى من الكونغرس زار بغداد بعد انتهاء الحرب العراقية الايرانية وتقدم بهذا العرض للرئيس العراقي السابق .
في جلسة مغلقة للزعماء العرب الذين حضروا قمة بغداد طلب الرئيس العراقي من الملك الراحل فهد ابن عبد العزيز وأمراء الخليج تخصيص نسبة من عوائد بلدانهم النفطية سنويا لدفعها للدول العربية الفقيرة التي اراد كسب ودها لمشروعه القادم , فيما تصاعدت حدة المشهد عندما خاطب الملوك والرؤساء العرب في جلسة مغلقة للاستعداد للحرب ضد اسرائيل وتحرير القدس .

لم تشغل واشنطن نفسها طويلا بأقناع صدام حسين بالتروي وأعادة النظر في حساباته وكبح جموحه السياسي الذي بات يشكل قلقا لاغلب دول المنطقة .كان لاعدام الصحفي البرطاني الايراني الاصل بازوفت في سجن ابو غريب بتهمة التجسس والذي قابله القاء القبض على عراقيين وعرب في دول غربية بتهمة تهريب مكونات المدفع العملاق, ومن ثم تهديد صدام حسين في مؤتمر عام بأنه سيحرق نصف اسرائيل بالسلاح الكيمياوي المزدوج اذا ماتحرشت بمنشاته النووية ماشجع الادارة الامريكية على تصعيد الموقف ونفض الغبار عن ملف العلاقات بين العراق والكويت ودفعها باتجاه الازمة الغير قابلة للحل لان اجهزة الاستخبارات الامريكية كانت تدرك جيدا شغف الرئيس العراقي بضم( المحافضة التاسعة عشر) وانه كان ينتقد مرارا كل من الرئيس السابق احمد حسن البكر والجنرال صالح مهدي عماش اللذان اتهمهما ببيع الكويت في الستينات من القرن الماضي.
كان فائض القوة العسكرية في العراق وتصاعد نفوذ المطالبين بالتخلص من صدام حسين وترسانته العسكرية في البنتاغون والبيت الابيض مع افول نجم الاتحاد السوفيتي مؤشرا واضحا على آن العلاقات بين واشنطن وبغداد قد وصلت الى طريق مسدود .

في احدث كتاب صدر في الولايات المتحدة في شهر سبتمبر 2007 تحت عنوان (اللوبي الاسرائلي والسياسة الخارجية للولايات المتحدة الامريكية )للباحثين جون ميار شيسر من جامعة شيكاغو وستيفن ولت من هارفرد يؤكد المؤلفان آن اللوبي الاسرائيلي والماحافضون الجدد والشركات الكبرى كانوا وراء السياسة غير المتوازنة للادارة الامريكية في الشرق الاوسط والتي دفعت البيت الابيض لاتخاذ قرار التورط في العراق .
آن ماكتب عن (عاصفة الصحراء) وتداعياتها وعدم مضي جورج بوش الاب في خطته لسحق قوات الحرس الجمهوري المحاصرة بعد انسحابها من الكويت ربيع عام 1991 على يد الجنرال شوارتزكوف الذي وعد بإحضار صدام حسين حيا او ميتا خلال بضعة ايام وتخلي الرئيس الامريكي عن وعوده بدعم انتفاضة الشيعة والاكراد انذاك لم يكن محكوما بمجرد الخوف من التمدد الايراني داخل العراق او الخشية من تعرض خارطته للتقسيم بقدر ماكان يحمل في طياته من مخطط أستراتيجي بعيد المدى يتعلق بانضاج الاوضاع الداخلية في العراق لقبول شكل جديد من العلاقة المباشرة بين البلدين .
في تلك السنوات الطويلة من الحصار الاقتصادي الذي فرض على العراق وراح ضحيته اكثر من مليون من المدنيين لقوا حذفهم بسبب الجوع والمرض بات صدام حسين مدركا اكثر من اي وقت مضى آن الامريكيين قد اوثقوا شد الحبل على عنقه وعنق نظامه وتركوا له مجرد فسحة للبقاء الى اجل باتوا هم يمتلكون اجندته. وعبثا حاول الرئيس العراقي من خلال وساطات ملوك ومسؤليين عرب اصدقاء لواشنطن آن يعرض نفط بلاده وسيادتها تحت اقدام الامريكيين الذين اصدروا (قانون تحرير العراق) وكانوا يدركون جيدا آن النظام في بغداد قد انتزعت انيابه ومخالبه ولم يعد يمتلك سطوته السابقة كما تخلى عن جميع اسلحة الدمار الشامل التي كانت بحوزته والتي اصر الامريكيون على وجودها بأعتبارها المبرر الوحيد لاجتياح العراق .
لقد رفض ساسة البيت الابيض اي انقلاب عسكري كان ممكنا للاطاحة بصدام حسين واستبداله بجنرال من نفس المؤسسة العسكرية مثلما رفضوا حين وضعوا خطة الغزو اي دور لفصائل واحزاب المعارضة العراقية في العمليات العسكرية التي شنوها ربيع عام 2003 واصروا ان تكون نهاية حليف الامس على ايديهم فقط حين قادوا تحالف دوليا جديد لغزو العراق دون اي تفويض او ضوء دولي اخضر مثلما حصل عام 1990 في سعيهم هذه المرة تجريد العراق من اسلحة الدمار الشامل وجعل العراق منطلقا لاعادة البناء السياسي والعلاقات الاقليمية في الشرق الاوسط الجديد وفقا لمبادىء الحرية وحقوق الانسان انطلاقا من اكثر بقاع الارض ظلاما دون ادراك عواقب هذه الخطوة وتداعياتها .

يتبع الجزء الثاني
*هذا المقال هو فصل من كتاب سيصدر قريبا بعنوان (العراق..دولة البعد الواحد)



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن