النصف الآخر 6

هشام بن الشاوي
benchchaoui@yahoo.fr

2007 / 9 / 10



في هدأة الليل البهيم ، تلوح القرى المجاورة والبعيدة غارقة في صمت أواخر ليالي الشتاء الكئيبة . يتناهى نباح الكلاب متقطعا وبعيدا .. النجوم تسبح في الفضاء السحيق تحرس القمر الشاحب ، وقد توارى خلف السحب ..
قبالة البيوت ، نصبت خيمة كبيرة في الباحة الواسعة ، إضاءتها الساطعة تسلب ليل القرية صمته الجليل وظلامه الدامس .. يلوح الحزن على صفحات وجوه الفلاحين ، المتناثرين داخل الخيمة ، مشكلين جماعات صغرى ، متفرقة .. متحلقين حول صواني الشاي وأطباق الكسكس ، تحدثوا بصيغة الماضي عن الجد الفقيد - بكلمات مختصرة كأنما ينتزعونها انتزاعا من قلوبهم - عن تعلقه بقريته التي لم يفارقها إلا لماما .. عن مكارم أخلاقه، صلواته وحجه ، قبره الذي لم يجدوا عناء في حفره في هذه الأمسية ، وهم يدفنونه على عجل ، قبيل حلول الظلام .. ثم انساب الحديث إلى المطر الشحيح ، توقع ضعف المحاصيل الزراعية ، كراء المراعي ، غلاء الأعلاف ، وأمنيتهم القديمة في حفر بئر أخرى وتزويدها بمحرك ...
وبخطوات حثيثة يتنقل الأخوال والأعمام بين الخيمة و بيت العزاء حاملين أطباقا أو صواني ، وكلاب الدوار تروح وتجيء بينهم وديعة ، صامتة كعادتها في ليالي الأعراس والمآتم، تبحث متكاسلة عن بقايا الطعام ...
تعلو أصوات فقهاء الدواوير بتلاوة القرآن ، يسود الصمت ، وفي الداخل يتردد صدى أنين خافت لنساء حزانى ممتزجا بدموع أعينهن الملتهبة ، يمزقه صوت إحدى القريبات ، وهي تنهر النسوة المتكاسلات عن خدمة المعزيات برباطة جأش و رقة مغلفة بقسوة لينة ...






تأملته المرأة وهوغارق في صمته ، حاولت أن تلاطفه ، ودون جدوى .. سألته عن سر حزنه ، لم ينبس بكلمة ، أجابها أحد الندماء بأن جده مات هذا اليوم ..
لم يهتم لسماع بقية كلامهم ..
تزاحمت الصور في ذاكرته ، أحاسيس شتى اصطخبت في أعماقه ، أحس بهم ثقيل ينزاح عن كاهله ، تلك خطوة كان يجب أن يتخذها .. يتألم حين يستحضر أن من كان وراء قراره اللامتوقع حبيبته التي عبرت له عن رغبتها في العيش معه ، بشرط أن يبارك والديه زواجهما . تساءل : " كيف يتخلى عن امرأة وهي تحبه كل هذا الحب ويتزوج فتاة بدوية أمية لا شيء يوحد بينهما غير دم القرابة ولا يستلطفان بعضهما ... ؟؟" .


فكر أياما وليالٍ في التخلص من عبء وافق عليه بصمت سلبي ، والقلب (العاشق الملاّل) كان في سبات وجداني ...
يعتصر قلبه الألم ، لا ينسى دموع أمه وهي تحول ذلك اليوم إلى مأتم ، و الجد اتهم أبويه أنهما مرغوا سمعته في الوحل بعد أن كان رأسه مرفوع وسط القبائل .. ويتهم الأقارب العم بأنه من حرضه - بحكم عملهما المشترك في ورش واحد - حتى يرد لهم صفعة تزويجهم الخالة لصديقه بعد أن كانت خطيبته ..
العم أيد قراره قائلا " : يوم الخطبة لم تكن حاضرا معهم ، لم تتفق مع أحد ... فعلوا كل شيء من دون حضورك ...!!".
الأب أقسم ألا تدخل بيته أية واحدة من ربيبات الشوارع ..
البيت صار أشبه ببيت عزاء ، الأم تهزأ من بكائه بعد أن تخلت عنه الحبيبة خوفا من رد فعل أسرته : " كل هذا من أجل امرأة ، لا شك أنها (سحرت لك ). و لن تجد مغفلا غيرك بعد أن( شبعت ) من الخروج مع زملائها في العمل ... لقد خسرت البنتين معا !! " .
الخال الأكبر يشيح عنه بوجهه كلما التقاه في الطريق ، يردد بقية الأقارب بأسى " :لن تجد لها مثيلا ...!! ".
والجد بهذه البساطة نسي كل شيء، كل شيء .. كما لو كنت أحد ثيرانه ، بمجرد أن يرى أية بقرة من البقرات يعتليها حتى لو كانت أمه أو أخته ..
ينسى كل شيء .. فرحه النقي في العطل المدرسية بأكبر أحفاده كل هذه السنوات في لحظة .. تهتف الأم :
- من الآن فصاعدا ، لا تضع قدمك في القرية حتى لو مات أبواي!
رد بحزم، ومن دون تفكير:
- موافق .









انسابت دموعه حارة ..
واساه الرفاق ، كفكفها .. انحنى على المرأة التي لم ينتبه إلى التصاق جسدها به ، يرشق بقبلاته مابين خدها و عنقها متفاديا رائحة التبغ المنبعثة من فمها ، ويده تعبث بثديها الثر...
أفرغ "كبالا" الكأس في جوفه دفعة واحدة ، ردد بصوت طفولي حاد ، كما تعود كلما رأى نسوة مارات أمام الورش : " وابااااغي اللْحمْ مْ مْ مْ ، واباغي لْحَاااايْمممة رْطَيْيِِْيْيْيْبــَـة " ، تفطن العابرات إلى غزله الوقح البذئ ، تتضاحكن في غنج ، مزهوات بأجسادهن ..
مدّ "المعاشي" ل"كبالا " ما تبقى من الوعاء، طالبا منه أن يتنازل لهم عن العشاء ، لأنه شره ، يحتج بصوت حاد :
- (أنا وَلِّيتْ كلب ناكل في الكَميلة ).

وكعادة أبناء الدوار في التندر بهذه اللازمة ، سأله "المعاشي" عن حكاية جده حين رأى أول مرة التلفزيون . كان "كبالا" طفلا في ربيعه العاشر.. ظهر مقدم نشرة الأخبار مستهلا كلامه بتحية "السلام عليكم " ، فالتفت الجد إلى "كبالا" مشدوها قائلا :
- (هو عرفني وأنا معرفتوش ) !!




مع تباشير الصباح ، تسلل "المعاشي" من الفراش ، هز "كبالا " من كتفه :
- (ماغادي تمشي تحرث آمسخوط الوالدين) .. ؟
بين النوم واليقظة ، رد بصوت متهدج بأنه لا يمكن أن يعمل في الحقل و الورش .. يكفي أن يدبر لهم المال . تلك شؤون أخيه (بو الرْكابي سمحمد ).

تستيقظ النساء الأربعة عند سماع حديثهما الخافت ، يرتدين جلابيبهن مغادرات الحجرة في صمت وهن يتثاءبن .. يسبقهن "المعاشي " واقفا أمام البوابة الحديدية ، يلتفت يمنة ويسرة ، ثم يشير إليهن بيده أن يخرجن بسرعة ..

في صباحات الآحاد يغرق الحي في صمت آسر مغرٍ بالخمول ،عكس بقية أيام الأسبوع ، حيث تدب فيه حيوية وصخب مبكرين ، منبعثين من ورش البناء الوحديد في الحي .. تغازل شمس الضحى وجه "بعية " النائم قبالة النافذة وهي تخترق الستارة البالية .. يلقي نظرة على عقارب الساعة ، يسارع بإيقاظ رفيقيه .. "كبالا " يتلكأ وهو يتمطى في فراشه كبغل يتمرغ في التراب ..


تنعم القرية بهدوء غير معتاد ، داخل الخيمة تناثر بعض الأقارب فوق الحصير ، يقدم "المعاشي" تعازيه مدعيا أنه كان في الدارالبيضاء حين بلغه الخبر، ولم يصل غير هذا الصباح ...
يلوح الأب مطرق الرأس مع أحد الأخوال ، يتحدثان عن أوراش البناء ، عن الابن العاق .. الذي لا يريد أن يصير رجلا ، لا زواج ولا تحمل مسؤولية الإشراف على الورش ، ويقضي اليوم في المزاح مع العمال بدل أن يكون صارما معهم .. لم يفكر حتى في أن يظهر أمام المعزين .. يقترح عليه الخال أن يبعده عن أولاد دوار الدحوش :(بعية وكبالا والتباري ..)، وأن يتنازل له عن ورش الحاج ،و يكتفي بأن يزور الورش ، من حين لآخر، زيارات عابرة : " عندي "مْعلم" يعول عليه في كل شيء" .
أطرق الأب برأسه صامتا موافقا ..
وجاءهما صوت الخال الأكبر ، يلوح بيده في الهواء هاشا على الغنم وهو يشتمها كعادة الفلاحين ...


قاموا بجمع أغطيتهم ، تشميسها فوق الجدران ، وتصبين بعض الثياب وأزياء العمل ، قرابة الساعة الثانية عشر تناولوا وجبة فطورهم وغادروا - ثلاثتمهم - الورش ، مدججين بضحكهم الصاخب ، لا ح لهم عماد في شجار مع الجارة .. تشده من ثيابه تجره داخل بيتها متوسلة :
- حرام عليك ! حتى لو كنت كلبة لا تعاملني هكذا .. ثلاث سنوات لم أرك ، وتمر من أمام البيت وكأني لست أمك .. ؟؟
عقدت الدهشة ألستنهم ...
قال لنفسه ":أيمكن أن تكون هذه المرأة التي دوختني بشهوانيتها أُمّ صديقي؟ أيمكن أن أصارحه أني أشتهيها وتشتهيني .. ولكن ؟؟ يا الله!! ".

(يتبع)



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن