مأزق بنيوي

حيدر عوض الله
haider_awwad@yahoo.com

2007 / 8 / 28

من يتأمل اليوم في حال الحركة السياسية الفلسطينية، خاصة المنظمات والأحزاب، تقفز إلى ذهنه على الفور مأساة "بنات داموس" اللاتي فرضت عليهن الآلهة عقوبة أن يملأن في الجحيم سلالاً لا قاع لها إلى الأبد. ويبدو أن هذه الصورة المليئة بالقسوة والعبث في الوقت ذاته تحاكي حال الحركة السياسية الفلسطينية. فالسمة الأبرز في تجربة هذه الكيانات السياسية، إضافة إلى تشوّه تركيبتها التنظيمية والفكرية والاجتماعية، هي انعدام التراكم في تجاربها وخبراتها، واستفحال انفصام حياتها النظرية عن ممارساتها الواقعية.
ويبدو لي أن إطلاق مصطلح "الحزب السياسي" على هذه الأطر المنظمة فيه الكثير من بذخ التوصيف ووهم المحاكاة، إلا إذا افترضنا أننا بصدد إعادة إنتاج مفهوم الحزب السياسي بخصوصية معرّبة، كما سبق أن عرّبنا المجتمع المدني والقومية والدولة، وإنتاجات أخرى.
وإذا نظرنا إلى تركيبة أحزابنا السياسية ووظائفها مقارنة بالصورة الأصلية لمضمون ووظيفة الحزب السياسي الذي أخذنا لبوسه اللغوي، فإن برزخاً يستحيل ردمه سيقف شاخصاً أمامنا! وإذا تجاوزنا نظرياً، وبصورة مؤقتة، لُبس الحالة الفلسطينية وخصوصيتها التي أنتجت حركة سياسية على شاكلتها، فإن القوى السياسية الفلسطينية، وبحكم مجموعة من الأسباب البنيوية التي سيأتي ذكرها ضمن هذا المقال، عانت من غياب رؤية منهجية متسقة لشكل صياغة أو إعادة صياغة المجتمع ضمن رؤية ومفهوم الحزب المعين، إعادة صياغة تبدأ بالتربية والتعليم والثقافة وتنتهي بالاقتصاد، الأمر الذي أتاح لحركة حماس أن تتدرج في هيمنتها ابتداء بالهيمنة الثقافية والتربوية، ثم السيطرة على قطاع واسع من العمل الأهلي، تلاه انقلابها السياسي والعسكري كنتيجة منطقية لما يسميه المفكر الماركسي بحرب المواقع، أي احتلال المجتمع وبناه السياسية والمدنية بالتدريج ، ويبدو أن الميوعة والتشوه المزمن الذي يعاني منه المجتمع الفلسطيني لأسباب موضوعية، وغياب التبلور الطبقي لغياب القاعدة الإنتاجية قد واصل حضوره في البنية الفوقية، وبالأساس في الأحزاب السياسية، وإذا غضضنا الطرف عن التأنق النظري، والتمثيل المتخيل للقوى الاجتماعية في برامج هذه الأحزاب، والأدلجة المفتعلة لتمثيل مصالح الفئات والشرائح الاجتماعية، فسنكتشف فقراً مدقعاً في واقعية هذا التمثيل وفي صياغة برامج واقعية تسند هذا المخيال التمثيلي لتلك الفئات والشرائح، ومن الملاحظ في حال الحركة السياسية الفلسطينية على المستوى البرامجي أنها تملك رأساً مضخماً عشرات المرات على جسد واهن وضعيف.
وقد وجدت هذه الأحزاب والقوى السياسية في طبيعة وخصائص مرحلة التحرر الوطني الفقاعة الضخمة والقادرة على حملها وتسويغ مشروعية وجودها حتى الآن، وتأجيل الأسئلة الوجودية التي باتت تطل برأسها بعد الانعطافة البارزة في القضية الوطنية الفلسطينية والتي تمثلت بولادة السلطة الفلسطينية، وانقلاب حماس، وبعد أن صارت الديمقراطية والرغيف يسيران على قدمٍ وساق إلى جانب الاستقلال الوطني.
إذا أردنا أن ننظر إلى علاقة المجتمع الفلسطيني بالمجتمع المدني الحديث، بصورة أكاديمية صارمة، فسيتعذر علينا القبول بمدنية المجتمع الفلسطيني، ليس بسبب غياب الدولة الوطنية التي تعتبر شرط قيام المجتمع المدني فحسب، بل ولغياب المؤسسات والهياكل الاجتماعية المتولدة بفعل تعقد وتنوع وتناقص المصالح الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
ان المجتمع المدني رغم الخلاف حول تعريفه ومكونه، خط الدفاع الأساسي للدولة من نفسها وعن نفسها، بمعنى أن هذا المجتمع المدني، الذي يصل فيه البعض الى مستوى التقديس، هو نتاج الدولة البرجوازية، والتي تتمكن من خلاله من صد أي هجوم مباغت على سلطتها وهيمنتها السياسية والاقتصادية، وتلطيف حدة التناقضات المتولدة من طبيعة ونشاط النظام السياسي – الاقتصادي للدولة المعينة بحيث تمتصها هذه المؤسسات دون تشكيل أي خطر حقيقي على سلطة الدولة والنظام القائم، وما يعزز هذا التعريف الشخصي، للمجتمع المدني، هو استقرار النظام السياسي الاقتصادي للدول التي يتمتع فيها المجتمع المدني باستقرار واستقلالية نسبية عن مؤسسات وهيمنة الدولة.
وسيكون مفاجئاً لي ولنا حدوث انقلاب أو أي تغيير دراماتيكي في النظم السياسية، أو الدول التي قطع فيها المجتمع المدني شوطاً طويلاً في ثبات وقوة مؤسساته. على عكس النظم التي تفتقر للرسوخ المؤسسي، أو التي يخطو فيها المجتمع المدني خطواته الأولى. هذا الاجتهاد في رؤية وتعريف مكانة ودور المجتمع المدني لا يعني موقفاً سلبياً منه، بقدر ما هو محاولة لوضعه في إطاره دون وهم أو شطط أو انتقاص.
ويبدو أن التجربة الإنسانية لم تنتج حتى الآن شكلاً أكثر قبولاً لتنظيم الصراعات وهضمها من شكل المجتمع المدني. وفي سياق هذا الدور الذي يلعبه المجتمع المدني في الدولة البرجوازية والحديثة خصوصاً، يتعقد النضال الاجتماعي والسياسي، ويصبح هدف الظفر بالسلطة السياسية من قبل أي طبقة اجتماعية، أو حزبها السياسي، أمراً بالغ الصعوبة والتركيب، ويجب أن يمر بقنوات شديدة التعقيد والصعوبة، وأهمها على الإطلاق قنوات المجتمع المدني ومؤسساته. وهنا بالضبط يمكننا تفهم التكتيك العميق لغرامشي في استبدال مفهومي "حرب الحركة" و"الثورة المستمرة" بمفهومي "الثورة السلبية" و"حرب المواقع"، كما يمكننا أيضاً تفسير سر الأموال الضخمة التي تضخ على تقوية وترسيخ هذه المؤسسات.
واليوم، لاتستطيع الحركة الوطنية "المغدورة" أو أي من أحزابها السياسية أن تترفع عن " التلوث" باحتياجات المجتمع الفلسطيني بالغة التنوع والتعقيد، وأن استمرار هيمنتها السياسية، أو تطور تمثيلها الشعبي، باتا بحاجة إلى أكثر من حضورها السياسي العام بكثير، ما يتطلب منها ملء فضاء كتلها الاجتماعية بدءاً بالثقافة والتربية وانتهاء بالقتال الاجتماعي المتواصل ذوداً عن مصالحها.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن