الشفاهية .. الداء المستعصي في الثقافة العربية(9) الشفاهية والخطاب الشعري

ثائر العذاري
alethary@yahoo.com

2007 / 8 / 13

في ثمان مقالات سابقة حاولنا التأسيس لمقاربة نظرية لتحليل الظواهر الفنية في الأدب العربي التقليدي من خلال مفهوم الشفاهية ، وأظن أننا نستطيع الآن ولوج الموضوع اعتمادا على تلك الأسس.
من المعروف أن الشعر هو أرقى فنون اللغة ، لما يتسم به من انضباط جمالي ، غير أن الشعر عند كل الأمم هو الفن الوثيق الصلة بالرؤى الكونية وعوالم الميتافيزيقيا ، ولذلك تراه مسرحا للتأمل وميدانا لإيجاد حلول للألغاز الكونية غالبا ما تكون مبنية على مفاهيم روحانية .أما الشعر العربي التقليدي فهو بعيد أيما بعد عن هذا الفهم ، ذلك لأن أسس الخطاب الشعري العربي التقليدي تقوم على تقاليد الحياة الشفاهية ، فالشاعر ينظم قصيدته لمستمع ينتظر منه الانفعال المباشر السريع بما لا يعطي فرصة للتأمل، خذ مثلا هذه الأبيات من واحدة من أقدم القصائد العربية:

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها لما نسجتها من جنوب و شـمأل
...............
وليل كموج البحر أرخى سدوله عليّ بأنواع الهمــوم ليبتلــي
فقلت له لما تمطى بصلبـــه وأردف أعجازا وناء بكلكـــل
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي بصبح وما الإصباح منك بأمـثل

هذه هي البداية التقليدية للقصيدة العربية (قفا ، خليليّ ، صاحبيّ...)، وهذه المفردات من أدوات الخطاب الشفاهي المباشر، ومن الواضح أن الشاعر يفترض وجود المستمع أو مجموعة المستمعين ويخاطبهم خطابا مباشرا، بل أن الشاعر يغرق في الشفاهية ، اذ يمارس هو نفسه دور الراوي ، اذ يلاحظ انحراف صيغة الخطاب بعد البيت ( وليل...) حيث يتحول الشاعر الى راو يروي حواره مع الليل ويمكن ان نلاحظ محافظة الشعر على صيغة الخطاب المباشر وهو يرويه (أيها الليل،انجلي،منك) ولم ير من دافع لتحويله الى خطاب غير مباشر ، وهذا أمر طبيعي حسب معايير الرواية الشفاهية.
والأمر الذي أريد القارئ الكريم أن ينتبه اليه هو هذه البنية الصوتية المتقنة التي تجعل القيمة الجمالية للشعر مرتبطة بالاستماع لا القراءة ، وبمعنى اخر مرتبطة بالانفعال المباشر لا التأمل ، انظر مثلا الى صوت (اللام) في الابيات الثلاثة الأخيرة ، فهو يرد هكذا:
البيت الأول: الصدر 4 العجز 2
البيت الثاني: الصدر 2 العجز 4
ولكن ما ان يتغير اتجاه الخطاب في البيت الأخير حتى تتغير المعادلة تغيرا ملحوظا اذ يأتي الشاعر بحشد كبير من اللامات في الصدر.
هذه الهندسة الصوتية ترمي الى السيطرة على المستمع اعتمادا على النغم فتكرار صوت واحد بطريقة منتظمة يشبه الايقاع في الموسيقى الذي يحملنا على التجاوب مع اللحن ويساعدنا على ايجاد طريقنا فيه.
هذه ظاهرة واحدة من ظواهر الفن الشعري التي فرضتها الشفاهية ولعلنا نتمكن من الحديث على ظواهر أخرى في مقالات قادمة.

alethary@yahoo.com



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن