في سوريا: حرية الصمت ممنوعة أيضاً!

فرج بيرقدار
faraj_b51@hotmail.com

2007 / 6 / 18

أقام نادي القلم السويدي بالتعاون مع مؤسسة مهرجان الشرق ندوة حول "حرية التعبير في الشرق الأوسط"، وذلك على مسرح ستوكهولم الجنوبي مساء 8/6/2007.
وقد شاركتُ في هذه الندوة إلى جانب الزملاء:
سوسن زيده صحفية أردنية، راديو عمَّان نت.
مجدي عبدالهادي، محلل شؤون عربية في إذاعة بي بي سي.
داود كتاب، مدير معهد الإعلام الحديث بجامعة القدس.
وقد كانت إدارة المنصة للصحفية سيسيليا أودِن مراسلة راديو السويد في الشرق الأوسط.
فيما يلي نص الورقة التي تقدمت بها إلى الندوة
.
في سوريا: حرية الصمت ممنوعة أيضاً
!
كان السوريون في الماضي، كلما ورد اسم "تدمر"، ذهب بهم الخيال إلى مملكة "زنوبيا" الشهيرة، وتلك الحضارة العريقة، التي تأسست في عهدها، في النصف الثاني من القرن الأول قبل الميلاد. ولكن منذ مطالع الثمانينيات من القرن الماضي، صارت كلمة "تدمر" تذهب بالخيال إلى ذلك السجن الصحراوي الرهيب المعروف باسم "سجن تدمر العسكري"، وما يعنيه من محاكم ميدانية عسكرية، وعمليات قتل انتقامي، وجولات شبه يومية من التعذيب الوحشي المنظم، ما أودى بحياة الآلاف من السجناء السياسيين.
أمضيت في هذا السجن السنوات الخمس الأولى من اعتقالي بانقطاع تام عن العالم الخارجي.
في سجن تدمر يشعر المرء أن كل شيء ممنوع ما عدا التعذيب والموت. هناك لا زيارات، لا نقود، لا رعاية صحية، لا راديو، ولا حتى ثياب.. أما الطعام ففي الحد الأدنى لحفظ الحياة.
بالمناسبة فإن اسم "تدمر" في اللغة الآرامية يعني "المعجزة". في الواقع هي إحدى معجزات الحضارة في تاريخنا القديم، وإحدى "المعجزات" الوحشية الدامية للاستبداد في تاريخ سوريا المعاصر.
أعلنت السلطات منذ بضعة أعوام أنها أغلقت سجن تدمر نهائياً، ولكن ما من دليل قاطع أو شهود ثقات على أن السجن قد أغلِق بالفعل.

وكنا أيضاً كلما ورد اسم بلدة "صيدنايا" القريبة من دمشق، ذهب بنا الخيال إلى "دير سيدة صيدنايا" الذي بني في عام 547 م، وإلى كنيستها الشهيرة التي تحتفظ بواحدة من الأيقونات الأصلية الأربع لمريم العذراء، التي رُسِمت بيد الرسول لوقا المبشر.
وبالمناسبة أيضاً فقد وقع خيار الفاتيكان على "صيدنايا" لتكون مقراً لانعقاد مؤتمر الحوار مع الكنائس الشرقية في العام المقبل 2008.
صيدنايا هذه تعني الآن "سجن صيدنايا العسكري"، وقد أمضيت فيه السنوات التسع اللاحقة من اعتقالي.
لا أتحدث عما تعنيه صيدنايا بالنسبة لي أو للمعارضة أو للشعب السوري فقط، وإنما أيضاً بالنسبة للنظام الحاكم ومؤسساته وأتباعه، وإليكم واحداً من الشواهد التي لا تضل دلالتها.
منذ ثلاثة أعوام تقدمت بمخطوط شعري إلى اتحاد الكتاب في سوريا، ولكن الاتحاد رفض نشر المخطوط لأسباب عديدة أهمها أني ذيَّلت قصائدي بتحديد زمان ومكان كتابتها. مكان كتابة القصائد في الحقيقة هو سجن صيدنايا، ولكن الحذر دفعني إلى حذف كلمة "سجن" والاكتفاء بالإشارة إلى أن المكان هو "صيدنايا"، غير أن حذري لم ينفع، إذ قدَّ متْ لجنة القراءة، في تقريرها عن المخطوط، شرحاً وافياً وربما "ذكياً"، لمعنى إصراري على تذييل القصائد باسم "صيدنايا"، وما ينطوي عليه ذلك من مخاطر ليس أقلها أن خيال القارئ لن يذهب في هذه الحال إلى بلدة صيدنايا التاريخية، بل سيستحضر تلقائياً وعلى الفور"سجن صيدنايا"، وذلك لأنه أصبح أكثر شهرة وحضوراً في الذاكرة السورية الراهنة، أو على الأقل في ذاكرة مئات آلاف السوريين ومعاناتهم خلال زياراتهم لأقاربهم الذين كانوا أو ما زالوا في هذا السجن.
لعلكم تلاحظون كيف يبدِّل النظام السوري معاني الأشياء ودلالاتها وتداعياتها!

لا بأس.. كنت أتحدث عن مصادرة حرية التعبير، ولكن مشكلتنا في سوريا أبعد من ذلك بكثير. لقد وصل الأمر بالنظام السوري إلى حد مصادرة حرية عدم التعبير، أعني مصادرة حرية الصمت والانكفاء.
ليس من حق السوري أن يصمت أو ينكفئ عن المشاركة في أعياد النظام وأعراسه ومناسباته، ولا سيما عندما تتعلق المناسبة بشخص الديكتاتور.
الأمثلة كثيرة ولكني سأكتفي بالإشارة إلى واحد منها، هو ذلك المتعلق بانتخاب الرئيس.
في الأيام الأخيرة شهدت سوريا ما يسمى "الاستفتاء" على رئاسة الجمهورية. لم يكن هناك بالطبع سوى مرشح واحد وحيد، هو الرئيس السابق نفسه.
من الجليِّ إذن أنه ليس انتخاباً بالمعنى المتعارف عليه عالمياً!
في الحقيقة منذ أكثر من أربعين عاماً لم تشهد سوريا أي انتخابات فيما يتعلق بالرئاسة.. بالطبع أو بحكم العادة تكون نسبة فوز المرشح أقل قليلاً من 100 في المئة. غير أن نتائج الرئيس (في الاستفتاء الأخير الذي جرى في 27 أيار/ مايو 2007) كانت متواضعة إلى حد ما، إذ لم يحصل سوى على نسبة 97.62 في المئة فقط!
يقول تقرير وزير الداخلية إن عدد المصوِّتين كان أحد عشر مليوناً ومئة وتسعة وتسعين ألف ناخب، أي أكثر من 95 في المئة ممن يحق لهم التصويت، كلهم قالوا 7-7-نعم7-7- للرئيس، باستثناء تسعة عشر ألفاً وستمئة وثلاثة وخمسين ناخباً!
هذه النسبة وهذه الأرقام فضيحة من العيار الثقيل.
إن عدد السجناء السياسيين (السابقين فقط) أكثر بكثير من هذه التسعة عشر ألفاً، فكيف إذا أضفنا إليهم المتضررين من أسرهم كالأبناء والزوجات والإخوة والأخوات.. إلخ؟!
عدد ضحايا المجازر التي ارتكبها النظام في مطالع الثمانينيات من القرن الماضي، بل عدد ضحايا مجزرة مدينة "حماة" وحدها أكثر بكثير من هذه التسعة عشر ألفاً ممن قالوا "لا"، فهل يعتقد وزير الداخلية أن أرقامه قادرة على إقناعنا بأن الرئيس حصل على أصوات من فقدوا آباءهم أو أبناءهم في تلك المجازر؟!
الأكراد السوريون الذين يقارب عددهم المليونين، وهم محرومون من أبسط حقوقهم القومية والثقافية، ناهيكم عن أكثر من مئة وخمسين ألف كردي جرَّدتهم السلطات من جنسيتهم السورية.
تُرى.. هل صوَّت الأكراد للرئيس بالإجماع أم بأغلبيتهم الساحقة؟!
هل تريد وزارة الداخلية إقناعنا بأن المازوشية مستشرية بالأكراد السوريين إلى هذا الحد الذي يصوتون فيه لمن يسوطهم ويسطو على أبسط حقوقهم، فضلاً عن الانتهاكات المستمرة لأمنهم وحرياتهم؟!
لا داعي للإسهاب في الحديث عن مواقف أحزاب المعارضة بكامل أطيافها، ولا عن مئات آلاف المنفيين والهاربين من فائض القمع العاري وأمثولات الرعب "الوطني" الأعمى، ولا عن آلاف المفقودين، منذ بداية الثمانينيات وحتى الآن لا تعرف أسرهم عنهم أي شيء، نعم لا داعي للإسهاب في الحديث عن هؤلاء ولا عن أقاربهم وأصدقائهم وأنصارهم!
كان يكفي لو تساهل النظام وسمح بحرية الصمت والانكفاء فقط، لنعرف كم ستكون نسبة المصوتين من هؤلاء الذين ذكرت، وكم ستكون نسبة الموافقين على تكريس الاستبداد، ليس فقط في هذه "المرحلة الصعبة من تاريخ الأمة" وإنما "إلى الأبد"؟
لا أعتقد أن المنطق والمحاكمة الموضوعية والأخلاقية للأمور ستغير شيئاً في تقرير وزير الداخلية، أو سلوك الأجهزة الأمنية، ولا حتى في قناعات أو حسابات الرئيس، ولو من باب السعي لضمان فوزه في الانتخابات القادمة مثلاً!
لا مجال لمثل هذه الحسابات ما دامت مقولة "سوريا الحديثة"، التي بدأت في عهد الرئيس الراحل، قد وصلت غايتها، وآتت أُكلها عبر الانتقال بسوريا من جمهورية غائمة الملامح إلى جمهورية وراثية. ولعل هذا الجمع "الباهر" ما بين الجمهورية والوراثة أو التوريث، يشكل سبقاً عالمياً، وخصوصية سورية خالصة، لا يمكن لصديق أن ينكرها ولا عدوّ !
بالمناسبة، يقول الخبراء إن احتفالات النظام بترشيح الرئيس لهذا الاستفتاء، رغم نتيجته الواضحة والمحددة سلفاً، قاربت المليار دولار، هذا في حين أن متوسط دخل الفرد في سوريا هو ما يعادل 1100 دولار أميركي، أي أقل من مئة دولار في الشهر!
للأسف أنتم في السويد لا تنعمون بمثل هذه "الاستفتاءات المباركة"، فقد "أعمتكم" حرية التعبير عن رؤية مثل هذه "الإبداعات والعطاءات" التي يقدمها النظام السوري لشعبه بلا حساب!

اعتادت سوريا منذ بداية الستينيات في القرن الماضي أن لا يكون فيها صحف خاصة أو مستقلة. السلطة تحتكر جميع وسائل الإعلام، ورغم أن العمل في صحف السلطة يعتبر امتيازاً، إلا أنه في الوقت نفسه ينطوي على مخاطر كبيرة. إن أي خطأ مطبعي في اسم الرئيس أو شعارات نظامه أو المسائل التي يعتقد بأهميتها، يمكن أن يودي بالصحفي والمنضِّد والمدقق اللغوي إلى أقبية مظلمة تجعلهم يلعنون الساعة التي عملوا فيها ضمن تلك الصحف.
في السنوات القليلة الماضية حاول النظام تحسين صورته أمام الرأي العام العالمي، فسمح ببضع صحف خاصة، ولكنه سرعان ما أغلقها بسبب مقال يتضمن جرعة انتقادية زائدة، أو بسبب كاريكاتير "تطاول" على أحد المسؤولين المقربين من رأس النظام (على سبيل المثال صحيفة "الدومري" التي أغلقت قبل ثلاث سنوات وصحيفة "البلد" قبل شهر).
نخبة من أهم الكتَّاب والصحافيين السوريين ينشرون كتاباتهم في الصحف اللبنانية، والعربية التي تصدر من أوروبا، وكذلك في مواقع عربية على الانترنت، ولهذا كله مخاطره من استدعاءات أمنية وتحقيقات وسجن، ليس بالنسبة للكتَّاب فقط، وإنما للقرَّاء أيضاً.
لقد صار الاعتقال بتهمة الثرثرة على الانترنت، أو التعاطي مع مواقع معادية، أمراً شائعاً في سوريا.
تقرير منظمة "المادة 19" صنَّف سوريا ضمن الأنظمة العشرة الأكثر عداء للانترنت وتقييداً لاستخدامها. ومع ذلك فإن الإعلام الرسمي السوري لا يفوت فرصة للتباهي بأن رئيس الجمهورية هو "مؤسس وراعي المعلوماتية" في سوريا!
تُرى ما الذي كان يمكن أن يحدث لو لم يكن الرئيس مؤسسها وراعيها؟!

البروفيسور عارف دليلة، أحد كبار الاقتصاديين السوريين وعميد كلية الاقتصاد سابقاً، عبَّر عن رأيه من خلال تقديم أرقام ووثاق عن واقع سوريا الاقتصادي. بالطبع لم يكن من الممكن دحض أرقامه ووثائقه، ولهذا قررت الأجهزة الأمنية "مكافأته" بالاعتقال في خريف عام 2001 وبالحكم عشر سنوات، أمضى منها حتى الآن ست سنوات، وكم أخشى أن لا تسعفه صحته المتدهورة، وقسوة ظروف اعتقاله داخل زنزانة انفرادية، في تحمُّل السنوات الأربع المتبقية.
الدكتور والكاتب كمال اللبواني قام قبل عامين بجولة في أوروبا وأميركا وتحدث عن آرائه وأفكاره المتعلقة بأهمية دعم الأنشطة الديموقراطية في سوريا، وفي الوقت نفسه عبَّر عن رفضه لأي تدخل عسكري خارجي، إلا أن النظام اعتقله لدى عودته في مطار دمشق (هل كان عليه أن يدعو إلى تدخُّل عسكري خارجي؟) ومنذ أسبوعين أصدروا بحقه حكماً بالسجن اثني عشر عاماً.
في شهر آزار/ مارس عام 2006 صدر ما يعرف باسم "إعلان بيروت ـ دمشق" وقد شارك في التوقيع عليه 134 كاتباً وناشطاً سورياً و 166 كاتباً وناشطاً لبنانياً.
يدعو الإعلان إلى تصحيح العلاقة ما بين سوريا ولبنان، وضرورة الاعتراف المتبادل بسيادة كل منهما، وتبادل السفراء ورسم الحدود وتطوير علاقات الأخوَّة بين الشعبين.. إلخ. ولكن السلطات السورية (رغم أنها تطرح إعلامياً نفس الأفكار) قامت باعتقال عدد من أبرز الكتَّاب والناشطين، وأجبرت بعضهم على سحب تواقيعهم، كما قامت بأساليب مختلفة من الضغط على آخرين ممن وقَّعوا على الإعلان، وحتى على المثقفين والناشطين الذين جاهروا بتأييدهم له، بما في ذلك لجوء السلطات إلى تسريح أبرز المؤيدين من وظائفهم بصورة تعسفية.
في شهر أيار/مايو 2007 ، أي بعد مرور سنة من الاعتقال، صدرت الأحكام على عدد من موقِّعي الإعلان: المحامي والناشط الديموقراطي أنور البني 5 سنوات.
الكاتب والمفكر ميشيل كيلو 3 سنوات.
المترجم محمود عيسى 3 سنوات.
وقد صدر الحكم غيابياً على كل من الناشطين خليل حسين وسليمان الشمر 10 سنوات.
كما ترون.. في سوريا الكثير من حرَّاس الضمير وأيقونات الرأي الحرّ، ولكن فيها كما ترون أيضاً، الكثير من الصلبان التي تفيض عن الاحتياج المحلي، وربما هي قابلة للتصدير!

بالطبع أنا مع حرية التعبير لقناعتي أنها السبيل الأرقى من أجل البحث عن الحقيقة والوصول إليها أومقاربتها على الأقل، وهي السبيل الأرقى أيضاً لمراكمة المعرفة وتطويرها، ويبدو لي أن النظام السوري ضد حرية التعبير لنفس الأسباب تماماً، مع اختلاف في الغايات.
أجهزة النظام وخبراؤه الأمنيون يدركون جيداً أن أي معرفة، بل أي معلومة مهما صغرت، إنما هي عنصر قوة، ولهذا فإنهم، في السياسة والاقتصاد والإعلام والتعليم والصحة والتموين إلخ، يعتمدون شفافية خاصة اسمها الحجب. يدركون على سبيل المثال أن وضع "الطميشة" على عيني السجين أو عزله، خلال فترة التحقيق بخاصة، في زنزانة منفردة وتحت الأرض، لكي لا يرى، ولا يعرف الليل من النهار، ولكي لا يتصل بأحد، ولا يتمكن من تحديد مكانه وما يحيط به، ومن الذي يحقق معه، وما الذي ينتظره في اللحظة القادمة.. يدركون أن كل ذلك وغيره يجعل السجين حقاً أقل معرفة وبالتالي أقل قوة، إلا إذا كان السجين على معرفة مسبقة بأساليبهم وأهدافها، وعلى حد من الإرادة والقناعة بأنه الأقوى، لا لشيء سوى أنه على قدر من الصدق والشرف والأخلاق، يؤهله لمواجهة من لا يعرف شيئاً عن مثل هذه القيم.

عموماً ليس اكتشافاً القول إنه ليس من مصلحة الأنظمة الاستبداية، وربما ليس بوسعها، أن تسمح طوعاً بحرية التعبير أو بامتلاك المعلومة أو بتسهيل الوصول إلى الحقيقة.
أوشك الوقت المخصص لي أن ينتهي، ولم يعد بوسعي أن أضيف سوى تساؤلين:
الأول يتعلق بمدى الجهد والتخطيط، أو الاستهتار وعماء البصيرة وانعدام الرحمة، حتى استطاع الاستبداد أن ينقل سوريا من نعمة الحد الأدنى من الأمن إلى أقصى ما تستطيعه لعنة الرعب، ومن محاولة استلهام الماضي الحضاري إلى واقع استسلامي يسوسه الموت والخراب.
أما التساؤل الثاني فهو حول إذا ما كانت قوى الديموقراطية في العالم اليوم تدرك، بالعمق الكافي، أن حرية التعبير في عصرنا الراهن، قد أصبحت مسألة عامة وعالمية ، وأن أي تهديد لها أو اعتداء عليها في أي جزء من هذا الكوكب، سينعكس عاجلاً أو آجلاً على تلك الحرية في الأجزاء الأخرى؟



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن